طالبت بعض الأقلام المحترمة، من بينها الكاتب المرموق د. أسامة الغزالى حرب والشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى، الأزهر الشريف بالموافقة على عرض فيلم (سفينة نوح) تجسيدا للرؤية المستنيرة التى تتفق وفكر النهضة الإسلامية الذى جسده الإمام محمد عبده، والذى يتوجب على شيخ الأزهر د. أحمد الطيب أن يقتدى به، وإلا كان الأمر انحيازا للرؤية الرجعية التى وقع فيها الأزهر وبعض شيوخه، ضد رواد التنوير المصرى وعلى رأسهم الشيخ على عبد الرازق فى كتابه المؤسس (الإسلام وأصول الحكم)، الذى واجه به الملك فؤاد دفاعا عن الدولة المدنية / العلمانية والدستور، ورفضا للخلافة التى سعى لنقلها إلى القاهرة بعد سقوطها فى اسطنبول. وفى اعتقادى أن تلك المطالبة تنهض على خلط غير مبرر بين تصورين مختلفين للتنوير، ومستويين متمايزين للعلمانية: التصور الأول يتأسس على التيار الرئيسى فى التنوير الأوروبى الذى عبر عنه العظيم كانط فى كتابه (نقد العقل المحض)، فالكتاب هو ذروة أعمال كانط، بقدر ما أن كانط نفسه هو ذروة التنوير الأوروبى، وفيه يذهب الرجل إلى احترام فكرة الغيب باعتبارها مكونا أساسيا فى مفهوم الإيمان، نافيا حاجة العقل إلى انتهاكها كى يثبت عقلانيته لأن العقل الإنسانى له مجاله الذى يعمل فيه، كما أن للدين مجاله الذى يعمل فيه، وكما أن تغول الدين (كإيمان روحى) على دنيا الناس إنما هو تدخل فى غير محلة يفسد الحياة ويصادر الحرية، فقد رأى أن طغيان العقل على عالم الروح محاولة لا طائل منها تثقل كاهل المعرفة، وتنتهك حرمة المقدس. وهنا حاول كانط أن يقدم تفسيرا بلاغيا لمعجزات العهد الجديد، فلم يعتبرها مجرد خرافات تدفعه إلى رفض الإيمان الدينى، بل مجازا يسعى إلى تبليغ العقل العام بالمنطق المجرد لهذا الإيمان. هذا التيار يؤسس لعلمانية معتدلة (سياسية)، وهو الذى يمكن أن ننسب إليه محمد عبده، وندرج تحته موقف على عبدالرازق، وأن نعاتب الأزهر على أساسه فى موقفه الرجعى آنذاك من الرجل فى معركة أظنها ستبقى مشهودة فى مسيرة التنوير المصرى، ونثمن باسمه دور الأزهر وشيخه فى تبنى وثيقة الدولة المدنية قبل عامين، وأن نلومه فى المقابل على تردد ممثليه فى الانصياع لمنطق هذه الدولة عند وضع الدستور الحالى قبل أشهر. أما التصور الثانى فينهض على التيار المادى فى التنوير الأوروبى نفسه، والذى مارس نقدا جذريا للكتاب المقدس، أخضعه كلية للمعايير العقلية وللنزعة التاريخية، ولم يعتد بأية بلاغيات خاصة فى تفسيره، على نحو انتهى بإثبات تناقضه والعلم، ومجافاته لوقائع التاريخ، وأثار موجات إلحاد متوالية فى المجتمعات الأوروبية، إذ ابتعدت بها عن التيار الأساسى المؤمن / المثالى الذى انطوى على ارتقائية ليسنج وإنسانية جوته، ونقدية كانط، إلى مادية فيورباخ وماركس وفرويد وصولا إلى عدمية نيتشه الذى أعلن موت الله. هذا التيار يؤسس لعلمانية متطرفة (وجودية) لا تتوقف عند الفصل بين الدين والسياسة، ولا تكتفى بدفع الدين إلى حيز الوجود الفردى بعيدا عن المجال العام، بل تسعى، من دون إعلان عن ذلك، وأحيانا من دون وعى به، إلى تصفية الدين ونفيه سواء من الوجدان الفردى، والوجود الاجتماعي. هذا التيار يعكس روحا اقتحامية للمقدس تفضى إلى تجسيد الأنبياء، بل وتقع دوما فى غواية نقدهم، وأحيانا فى فخ الإساءة إليهم كما جرى مع السيد المسيح فى عشرات الأعمال، وهى الظاهرة التى يندرج فيلم نوح فى سياقها بغض النظر عن نمط معالجته. تنهض الظاهرة على مبدأ مطلقية حرية التفكير والتعبير بحيث لا يصدها شئ أو فكرة، غير أنها، وتلك مفارقة، ترتد أمام مقدس وضعى على منوال (الهولوكوست) فلا تسمح بالشك فى روايتها السائدة رغم تاريخيتها المؤكدة، حتى إن الفكر الأوروبى غالبا ما يحاصر ويعزل الخارجين عليها، باعتبارهم تجسيدا لتيار عنصرى. ولهذا فلا أعتقد أن الأزهر الشريف يستطيع تغيير موقفه من فيلم «سفينة نوح» خضوعا لتلك الظاهرة، فالعقيدة الإسلامية تؤمن بكل الأنبياء السابقين على محمد، إذ تدرجهم فى سياقهم الدين التوحيدى/ الإسلام العام، وإذا ما قبل الأزهر تجسيد النبى نوح عليه السلام، فسيكون مضطرا لقبول تجسيد الرسول محمد [، وإلا وقع فى تناقض، وهو أمر يعز على ضمائر المسلمين الذين يجلون نبيهم ويرونه فى أفضل صورة يصل إليها خيالهم، ولذا فإن تجسيد شخصيته مهما بلغ من البراعة الفنية والإيجابية الفكرية لن يضيف إلى ذلك التصور شيئا. أما إذا كانت أقل براعة أو إيجابية، وهو أمر متوقع مادام القائم بها عقلا غربيا يرى نبينا الكريم من منظور مسيحى، فعلينا أن نتصور سلبية هذا العمل وربما بشاعته، وما يمكن أن يمثله من إهانه لمشاعر المسلمين فى العالم، أو يؤدى إليه من اضطرابات سياسية تفوق كثيرا ما حدث إبان أزمة الرسوم الدنماركية وعقب محاضرة البابا السابق بيندنكتوس أمام طلاب جامعة هيزنبرج. وعندها سيكون الأزهر بين خيارين أحلاهما مر: فإما أن يجارى غضب عموم المسلمين فيتبدى وكأنه يقود موجة صدام ثقافات جديدة. وإما أن يتحفظ على غضب هؤلاء العموم، وعندها سوف يبدو مفرطا فى حق نبى الإسلام إلى درجة تفقده مرجعيته، والتى لا تزال تلعب دورها كصمام أمان ضد نزعات التطرف الدينى والعنف السياسى وإن بدرجة فاعلية متناقصة. وهكذا فإن المعركة الصحيحة للأزهر الشريف لا تكمن فى قبول عرض فيلم، فهى قضية عبثية لا معنى لها، بل هى استثمار مرجعيته لصالح مهمته الأساسية وقضيتنا الجوهرية وهى الدفاع عن نقاء العقيدة من الكهانة والتطرف والإرهاب، ومن الذود عن دولتنا المدنية، أى علمانيتنا السياسية المعتدلة، التى أنتمى شخصيا إليها، وباسمها أعفى الأزهر وشيخه من هذا المطلب المتعسف، شرط التعامل بانفتاح مع كل أشكال الإبداع الأخرى التى تصدر عن واقعنا الدنيوي، فإذا كنا ندين كل محاولة لاستدعاء (المقدس) وتوريطه فى الدنيوى، فلماذا ندفع الآن بالدنيوى إلى حد التحرش بالمقدس؟. لمزيد من مقالات صلاح سالم