حتى مطلع العصر الحديث كان السؤال الفلسفى يدور غالبا حول الوجود، ما سره؟ وما أصله؟ ما مغزى الخلق ومصير المخلوقات؟ ولمرحلة تالية استغرقت العصر الحديث جله، دار السؤال الفلسفى حول المعرفة، ما قدرتنا على تعقل الكون ومعرفة العالم وكشف أسرار الطبيعة؟ وهنا أخذت الفلسفة النقدية، تتجاوز البحث التقليدى عن الله، أو عن الوجود الحق للأشياء، وتطلب منا أولا وقبل كل شىء أن نفحص «العقل الإنسانى» نفسه باعتبارة الأداة أو الملكة التى يقوم الإنسان من خلالها بتحصيل المعرفة، ونتأكد من كونه أداة صالحة لها أم لا، قادرة عليها على نحو مطلق أم بشكل محدود؟ وهنا يؤكد العظيم كانط أن الأداة إذا لم تكن صالحة للقيام بدورها، فإن مجهودنا كله سوف يضيع أدراج الرياح، وهو تصور لاقى قبولا واسعا، سيطر على العقل الأوروبى فى القرن التاسع عشر، وامتد أثره إلى القارة الأمريكية فى النصف الثانى منه، ولا يزال حاضرا بقوة فى مدرسة فرانكفورت وريثة النقدية الألمانية، حتى اليوم. كان من نتيجة هذا التصور الكانطى أن ارتدّ العقل الإنسانى إلى نفسه، يفحصها قبل أن يتورط فى فحص العالم. وقد توصل كانط إلى حقيقة مفادها أن العقل الإنسانى قادر على المعرفة، وصالح للنهوض بمسؤوليتها، لكن صلاحيته غير مطلقة، وقدرته ليست كاملة، بل محصورة فى نطاق عالم الظواهر والوقائع، فإذا ما تجاوز هذا العالم إلى ما فوقه، والطبيعة إلى ما بعدها، حيث قضايا الألوهية، والخلود، والحرية، فإنه يتناقض مع قدراته، ويطوح بنفسه فى بحر الظلمات. عبر هذه النزعة النقدية قدم كانط للفكر الغربى أكثر الخدمات أهمية وتأثيرا فيه، ربما حتى اليوم، فقبل كانط ظلت العلاقة بين العقل والإيمان ملتبسة، وكان الإيمان يحتاج إلى تدليل عقلى على وجود الكائن المستحق للإيمان، أى الله. وطالما لم يكن ممكنا إثبات هذه الحقيقة تجريبيا كان الطريق مفتوحا للشك، معبدا للإلحاد أو اللا أدرية، وكان الاتهام بالتناقض شائعا بين أن تكون مؤمنا، وأن تكون عقلانيا. هذا التناقض هو ما كان الفيلسوف ديكارت، رائد الفلسفة الحديثة، قد حاول القفز عليه، عندما ادعى قدرته على تقديم البرهان على وجود الله بنفس قدرته على تقديم البرهان الخاص بتساوى طرفى معادلة رياضية، يفترض أنهما متعادلان يقينا. تأسس الادعاء الديكارتى فى الحقيقة على الفيزياء الكلاسيكية السابقة على نيوتن، وأيضا على قاعدة المنطق الأرسطى القائل بوحدة الحقيقة، والقائم على مبدأ عدم التناقض، فالصدق أبدى، وكذلك الكذب، والصحيح أبدى وكذلك الخطأ، فكل طرف من طرفى هذه الثنائية هو خبر عن حقيقة أبدية لا تتغير. ولا شك أن كليهما، أى الفيزياء الكلاسيكية، والمنطق الأرسطى، سابقان على التجريبية الحديثة، المنهجية والشكية، المصاحبة لفيزياء نيوتن الحديثة، ولمنطق هيجل الجدلى ثم منطق برتراند راسل الرياضى، ولنتخيل حجم الشكوك التى كان ممكنا إثارتها فى مواجهة ادعاء ديكارت هذا خلال القرون الأربعة التالية على رحيله لو لم يقدم كانط تأسيسه الجديد للعلاقة بين العقل والإيمان، عندما تمكن من قلبها رأسا على عقب، مطالبا الملحد بإثبات عدم وجود الله، بدلا من مطالبة المؤمن بإثبات وجوده، منتصرا فى النهاية لفكرة أن الحقيقة الإلهية، لفرط تساميها وليس لفرط ذبولها، غير قابلة للإثبات والنفى التجريبيين، فهى حقيقة فوق العقل وليست ضده، وهكذا انحل التناقض الذى تصورته الفلسفة الحديثة حتميا بين الدين والعلم، وتجاوز الفكر الغربى مأزقه التاريخى، ولوجا إلى مرحلة أعلى فى تطوره لا تزال تحكمه حتى الآن.
