لقد جاء الإسلام ليقضى على آثار القبلية والعصبيَّةِ البغيضة، وكان من مقاصد الشرع الحنيف حفظ النفس والدم والمال والعرض. وحذر القرآن الكريم من إراقة الدماء، قال تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93]، وقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ”. وفى ظل ما تشهده محافظة أسوان من أحداث دامية ، طالب الأزهر الشريف أهل تلك الأرض الطيبة الذين عرفوا منذ فجر التاريخ بطيبَ النفسِ وشهامةَ الخُلق، أن يحقنوا دماءهم، وأن يجلسوا فوراً إلى حكمائهم لإزالة أسباب الكراهية. ودعا علماء الأزهر القبائل والعائلات المتناحرة فى أسوان إلى الاحتكام إلى صوت العقل والقانون واستدعاء قيم الإسلام فى التعامل مع الخلافات والنزاعات المختلفة. وإذ يقر العلماء بحق القصاص لمن قتل ظلما، غير أنهم أكدوا أهمية العفو والصفح والتسامح بين خلافات العائلات القبلية التى يعتقد أبناؤها فى الثأر أكثر مما يعتقدون فى القانون أو القضاء، على أن يتم الاكتفاء بقبول الدية من القاتل، درءا لخطر وضرر أكبر، لاسيما إذا ما أقر القاتل بخطئه، وأعلن ندمه طالبا من أهل القتيل الصفح والعفو. وأوضح الدكتور الأحمدى أبو النور عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، أن الإسلام حينما شرع القصاص شرعه لإصلاح المجتمع وتقويم الخارجين عليه، فقال تعالي: “ولكم فى القصاص حياة يا أولى الألباب”، فالإسلام يعطى الحق لولى الدم فى القصاص من القاتل بالسبل المشروعة عن طريق القضاء ونحوه، لكنه فى الوقت نفسه يدعو إلى التسامح والعفو عند المقدرة، ويرغب فيما يمكن أن يقطع شأفة الفتنة والقطيعة بين أبناء المجتمع، ذلك أن الإسلام حريص على دوام التواصل والتواد بين أبناء المجتمع. لذلك عظم الإسلام من أجر ولى الدم إذا ما عفا عن قاتل ذويه وهو قادر على القصاص منه، خاصة إذا ما أعلن الجانى توبته وندمه على فعلته وطلب العفو من أولياء الدم، ففى الدية بعض العوض عن فقد العزيز الذى تم قتله ظلما، كما أن قبول الدية يؤسس للعلاقات الإنسانية والاجتماعية الصحيحة. والقصاص حينما يتم، فإنه يكون علاجا للقاتل، لكنه فى الوقت نفسه قد لا يكون علامة أكيدة على إزالة ما فى النفوس من بغضاء، لذلك يكون التسامى بما يحافظ على العلاقات الإنسانية أولي، وهنا يكون العفو أولى من القصاص لأنه حينئذ سيكون مانعا من أن تطل الفتنة برءوسها. فالعفو وقبول الدية يمنع من استمرار العداء، وسفك مزيد من الدماء، فالقضاء فى المناطق الثأرية لايحقن الدماء، ولا يشفى غليل أهل القتيل. وشدد أبو النور على أنه لا يجوز للشخص أن يحكم لنفسه بالقصاص، ويأخذ حقه بنفسه، لأن هذا معناه إشاعة الفوضى فى المجتمع، ولكن يرجع فى هذا إلى الحاكم الشرعي، فالذى ينفذ القصاص ولى الأمر، وليس الأفراد. وأوضح الدكتور إمام رمضان إمام أستاذ العقيدة والفلسفة المساعد بجامعة الأزهر أن الأصل أن يتم القصاص من القاتل عمدا دون هوادة، حتى يتم ردعه وحماية المجتمع من ظلمه وبطشه، أما إذا رأى القاضى صلاح المجتمع فى قبول الدية حاول إقناع أولياء الدم بذلك، فإن هم أصروا على القصاص، كان لهم ما أرادوا بعد بيان آثار قرارهم، على أن يتولى ذلك القضاء، لأن الله عز وجل جعل العفو هنا اختيارا لولى الدم وليس إجبارا عليهم، فقال سبحانه “وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيْهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوْحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ”. وأشار د.إمام إلى أن لولى الأمر والقاضى المسلم تقدير الأمور بحسب المصلحة الشرعية فمتى رأى القاضى القصاص هو الوسيلة الناجعة للردع اصر على القصاص وإن عفا أولياء الدم، فالمصلحة العامة هى الأولى بالاعتبار، أما إذا استشعر إصلاح المجتمع بالتصالح ورضا أهل القتيل بالدية فعليه أن يحرص على ذلك. ولفت د. إمام إلى أنه إذا تبين أن هناك سوء فهم أو فتنة وقع فيها الطرفان، أو نحو ذلك فيجوز لأولياء الدم أى أهل القتيل التصدق بالدم وقبول الدية، واحتساب الأجر من الله عز وجل، إعلاء للمصلحة العليا للمجتمع. لجان للصلح ويقول الدكتور مختار مرزوق عبدالرحيم عميد كلية أصول الدين بأسيوط، إن الأولى رجوع الناس فى خلافاتهم إلى القضاء، وأيضاً إلى المجالس العرفية، وأدعو كل قرية من القرى وكل مركز من المراكز إلى تكوين لجان من أهل العلم، والجاه والسلطان، إلى التدخل السريع فى كل مشكلة من المشكلات بمجرد حدوثها، أو بمجرد الشعور بها قبل أن تقع، وهذا الأمر له جدواه وأنا شخصيا قد اشتركت فى هذه اللجان بصورة ودية وتم بحمد الله وأد كثير من الفتن قبل استفحالها فى قريتنا، وهنا نكون قد نزعنا فتيل الفتن بنسبة أكثر من 90% من القري، أيضا هناك أمر أنبه عليه، أن تلزم وزارة الداخلية رؤساء المراكز وعمد القرى ومشايخ البلاد فى أن تلزمهم بتكوين هذه اللجان والإشراف عليها. وفى سياق متصل يقول الدكتور حامد أبو طالب، عضو مجمع البحوث الإسلامية، إن ما نشاهده الآن فى ربوع مصر أمر يثير العجب، ذلك أن الشعب المصرى الكريم الذى كان يضرب به المثل فى السلوك المتسم بالأخلاق إذا به يثير الشجار والمشكلات الضخمة لأتفه الأسباب، وتغير مستوى الجريمة بدلاً من إن كان العقاب يزيد على ضرب إذا به يصبح قتلاً وذبحاً وتنكيلاً، بالآباء والأمهات والأبناء، وآخر ذلك ما نشاهده فى مدينة أسوان. وهذا الأمر الخطير يحتاج من وسائل الإعلام والمسئولين بحث المشكلة بحثاً علمياً لبحث الأسباب التى وصلت بنا إلى هذا المستوى فى التعامل ولا شك أن هذه الحالة ستؤثر على مصر وعلى المصريين، فلن يأتمن أحد مصرياً بعد ذلك ولن يأمن له، ولن يستعين به، ومن ثم فستلجأ الدول الأخرى إلى رعايا دول أخرى غير مصر للاستفادة من أبنائها بدلاً عن المصريين الذين يتسم سلوكهم الآن بالثورة والانتقام والشجار والاعتصام لأتفه الأسباب. سلوك مشين وأضاف: أن كل ذلك بسبب سوء السلوك الذى أصاب الشعب المصرى بلا مبرر، ويتمثل ذلك فى أن هناك علاجا للمشكلة يتمثل فى تصدى العلماء والعقلاء والدعاة ووسائل الإعلام ورجال الأعمال جميعاً فى توجيه هذا الشعب وإيقاظه من غفلته ولفت نظره إلى خطورة هذا السلوك وتأثيره السلبى على الحاضر والمستقبل ومن ثم فإذا استمر الشعب على هذا السلوك فلن يجد أبناؤنا أعمالاً وسيخشى أصحاب رءوس الأموال من استثمار أموالهم وستهرب هذه الأموال إلى خارج مصر.