فى عهد مبارك استنكر الجميع ظاهرة ترزية القوانين وقيام النظام بتفصيل القوانين وتطبقها على الشعب وفق ما يحلو له ضارباً عرض الحائط بآراء الآخرين متجاهلاً معاناة المواطنين غير مهتماً بمدى صحة وعدالة تلك القوانين، كل ذلك فى سبيل أحكام قبضته على النظام والاطمئنان لمستقبله ولخلاياه السرطانية التى زرعها ونشرها فى مفاصل الدولة. وكنا نعتقد أننا ودعنا هذه الظاهرة مع سقوطه وصعود نظام آخر، إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهى السفن، وشهدنا العديد من الملامح والتى تؤكد استمرار هذه الظاهرة وعودتها مرة أخرى ولكن فى ثوب جديد، وإن دل هذا فلا يدل إلا على أن الإشكالية ليست فى تغيير الرؤساء أو الأحزاب أو الأنظمة ولكن الإشكالية الحقيقية تكمن فى ثقافة الديمقراطية، فرغم سقوط النظام التسلطى إلا أن الثقافة التسلطية مازالت قائمة بيننا وتسير على نفس المنهجية والتى تقوم على هيمنة سياسية لحزب واحد جاء نتيجة نشر ثقافة تسلطية والتى من المحتمل أن تستمر لجيل أو أكثر بعد انهيار النظام القديم، وذلك بحكم أن القيم الثقافية لا تتغير بين عشيةً وضحها فإنه من الأرجح أن تستمر هذه القيم خاصة وأن مصر تنتشر فيها ثقافة الدولة الرعوية. إن معطيات تعامل القوى السياسية لاسيما الحزب الذى يتولى الحكم وشكل الحكومة تؤكد سيره على ضرب النظام السابق لاسيما فيما يتعلق بالأطر التشريعية والقانونية، وهو الأمر الذى تقره بعض الحقائق والوقائع التالية: الإصرار على إجراء الانتخابات أولاً وتأجيل الدستور فى استفتاء 19 مارس 2011، وهو الأمر الذى يخالف المنطق وأثبت فشله بعد التجربة والخطأ وإرهاق الدولة مالياً وتعطيل عملية الانتقال الديمقراطى واستمراراً لظواهر عدم الاستقرار التى تنعكس بالسلب على المواطن، وربما كانت هذه بدأية لنوايا التفصيل التشريعى والقانونى. الحرص على إصدار قانون العزل السياسى وذلك لمنع رموز الوطنى من المنافسة السياسية ورغم أنه كان محاولة لتظهير الساحة من رموز الفساد إلا أنه أخذ العاطل بالباطل، وكأنه جاء لإقصاء القادرين على المنافسة وإسقاطهم من اللعبة السياسية بصرف النظر عن نزاهتهم أو عدمها. كانت الانطلاقة الحقيقية لترزية القوانين بعد الثورة فى محفل المطبخ الدستورى وأعنى اللجنة التأسيسية للدستور وهو الأمر الذى لم يحدث فى عهد أكثر النظم استبداداً التى مرت بها مصر، واتضح ذلك فى عدم الالتزام بالمعايير الموضوعية التوافقية فى تشكيل التأسيسية، وفى نوعية الشخصيات المختارة التى أكدت تعمد تجاهل الفقهاء الدستوريين والتحايل بإدراج الموالين لتيار معين تحت صفة المستقل، فضلاً عن الإصرار على طرح الدستور للاستفتاء فى وقت غاب فيه الاتفاق والوفاق. وجاءت المحطة الكبرى والفاصلة بإصرار ترزية القوانين على تفصيلة معينة لقانون الانتخابات الجديد ورغم الحكم بعد دستوريته وبسببه تم حل البرلمان، إلا أن الترزية لا يودون تعلم الدرس ولا يستفدون من الخبرات السابقة بل كل ما يهمه المصلحة الضيقة التى لا تتلاءم مع القيم والمبادئ الدستورية، ليصر هؤلاء على ما لا يقبله أحد ويؤكد الشكوك والتخوف من هيمنة التيار الإسلامى بأن يصر الإخوان على بعض النقاط فى القانون والتى تمثل قنابل مفجرة ومخربة لركائز الديمقراطية، والغريب أن نجد أن الشق المتشدد فى التيار الإسلامى – السلف- لا يقبل ذلك واقفاً أمام هذا العوج غير القانونى، فى هذه اللحظة شعرت وكأن عجلة الزمن رجعت بنا إلى عهد المخلوع، وأن الثورة كأنها كانت حلماً واستيقظت منه!!. وهنا يجب استرجاع موقف قوى المعارضة ومع فعلته للفت الانتباه إلى ما به من عوار ومع ذلك تم تهميش آرائهم ومواقفهم والآن جاءت كلمة المحكمة الدستورية العليا لتضع حدا لمثل هذه الصبيانية غير القانونية. فكان لزاماً على من اقترح ومن ناقش ومن وافق على هذا القانون أن يحدد ما لم يُحدد، وليسقط العضوية فى جميع الحالات التى يغير فيها العضو صفته التى ترشح بها، وإنهاء جدالية الجنسية بالنص على شروط التمتع بالحقوق المدنية والسياسية"، وفض حالة الإشتباك حول العزل السياسى منع قيادات المنحل من ممارسة العمل السياسى والترشح للانتخابات الرئاسية والتشريعية لمدة 10 سنوات فقط لمن كان عضواً فى الفصلين التشريعيين السابقين على قيام الثورة. وهنا يجب أن أشيد بأداء المحكمة الدستورية والقضاء الذى استعاد مكانته بعد عودة البعض من عناصره إلى أروقة القضاء تاركاً مجال السياسة. إن تفصيل وهندسة القوانين قد لا تقتصر على هذه المحطة بل تم الكشف عن أخرى فى خط متوازن والذى ينهض فى قانون التظاهر الجديد، ففى تقديرى لكل ظاهرة يجب أن يكون هناك قواعد وإجراءات تنظمها وتحرص على التزامها للمسار السلمى وبشكل لا يعوق عجلة الإنتاج، ومع كثرت التظاهرات بهذا الكم المستجد علينا يجب أن يكون هناك قانون منظم لها، لكن يجب أن يكون عادلاً محافظاً على الحريات وليس مقيداً لها، واضحاً ومحدداً وليس أن يفتح الباب على مصرعيه حتى لا يكون نواه لعودة الدولة البوليسية من جديد.