إنه نهار ميت، ذلك الذى استيقظ فيه أهالى المنيا من نومهم فلم يجدوا تمثال رأس عميد الأدب العربى فى مكانه أمام استراحة المحافظ القديمة، فقد سرق الجوعى رأس إمام التنوير فى الثقافة العربية، من كانت عيناه المطفأتان نبراسا لجيل بأكمله، من رسمت كلماته طريقاً لكتيبة من المعذبين بالكلمة، من كانت معاناته أنموذجاً لهزيمة اليأس، من كانت أطروحاته الفكرية أحجاراً فى بحيرة العتمة الراكدة، لم يكن التمثال كاملا منذ البداية، وكان عبارة عن قاعدة هرمية يتوجها ذلك الرأس النحاسى اللامع، لكن سارقها الذى أصدق أنه لم يكن ليفرق بين رأس «طه حسين» ورأس «الحسين» لم ير فى ذلك اللمعان النحاسى غير لمعان تلك الجنيهات الهزيلة التى سيجنيها من ورائها، ليشترى خبزاً ليسد جوعه، أو دواء ليعالج مرضه، أو مخدراً ليغيب رأسه. أصبح التمثال قاعدة بلا رأس، مثل بلدنا التى أصبحت شعبا بلا قائد، وأمة بلا زعيم ورصاصات بلا هدف، ومثل ثورتنا التى داستها الأقدام ولوثها الأقزام، ومثل المنيا «عروس الوجه القبلى» التى أصبحت وجها مشوها وجسدا متآكلا، يضربها الجهل ويفتك بها التعصب والفقر والمرض، ومثل حلمنا الذى مازال يتلقى الطعنة بعد الطعنة فيجثو حينا ويصحو حينا، ومثل حكومتنا التى لم تر فى صعيد مصر غير ثدى ملوث ونساء تغتصب فى الحقول. المؤلم فى الأمر أن سرقة هذا الرأس ما هى إلا تجسيد لتلك الحالة المتدنية من الفقر والإفقار، وما هى إلا نذير لثورة الجياع التى إن وقعت ستأكل اليابس والأخضر، فقد وقعت الواقعة أمام استراحة للمحافظ وليس فى شارع جانبى، كما أن السارق «نشرها بمنشار» أى أنه مكث يجتثها ما يقرب من النصف ساعة، وكل هذا ولم ينتبه أحد، تماما كما لم ننتبه لهذا النزيف المر فى آثارنا، كما لو أن هناك شيطانا يخطط لقطع رأس مصر وتاريخها بالجهل مرة والجوع مرة والتعصب مرة، وكأنى أسمع نزار قبانى وهو يقول لطه حسين يرثيه مرة أخرى: يا أميرَ الحُروفِ.. ها هىَ مِصرُ وردةٌ تَستَحِمُّ فى شِريانى تَستَبِدُّ الأحزانُ بى ... فأُنادى آهِ يا مِصْرُ مِن بنى قَحطانِ تاجروا فيكِ.. ساوَموكِ.. استَباحوكِ وبَاعُوكِ كَاذِبَاتِ الأَمَانِى حَبَسوا الماءَ عن شفاهِ اليَتامى وأراقوهُ فى شِفاهِ الغَوانى تَركوا السّيفَ والحصانَ حَزينَيْنِ وباعوا التاريخَ للشّيطانِ يشترونَ الدُّنيا.. وأهلُ بلادى ينكُشونَ التُّرابَ كالدّيدانِ.. آهِ يا مِصرُ.. كَم تُعانينَ مِنهمْ والكبيرُ الكبيرُ.. دوماً يُعانى آهِ يا سيّدى الذى جعلَ اللّيلَ نهاراً.. والأرضَ كالمهرجانِ .. اِرمِ نظّارَتَيْكَ كى أتملّى كيف تبكى شواطئُ المرجانِ اِرمِ نظّارَتَيْكَ ... ما أنتَ أعمى إنّما نحنُ جوقةُ العميانِ