لا يجب أن تمر واقعة اغتيال المعارض التونسى شكرى بلعيد مرور الكرام، فقد هدمت تلك الواقعة مئات الأبحاث الاستخباراتية والاستراتيجية الأمريكية التى ادعت بعد وقوع أحداث 11 سبتمبر 2001 أن السبب الرئيسى للجوء الجماعات الأصولية الإسلامية للعنف هو أنهم يعيشون كبتا داخليا فى مجتمعاتهم، وأنهم محرومون من العمل السياسى العلنى، لأنهم ينتمون إلى جماعات وأحزاب معارضة لحكوماتنا المستبدة، فلذلك يلجأون إلى العمل السرى، وأن تلك الحكومات لا تتورع عن كبتهم بيد من حديد، وهو ما جعلهم يوجهون طاقتهم العنيفة إلى المجتمعات الغربية، وعلى رأسها أمريكا، باعتبارها الداعمة الأولى لتلك الحكومات المستبدة. وبناء على هذا التخيل الأمريكى بدأت جولات التحاور مع الإسلاميين فى العالم العربى، سواء أولئك الذين يعيشون فى الغرب، مثل حركة النهضة التونسية، التابعة للتنظيم العالمى للإخوان المسلمين، أو الذين يعيشون فى الداخل، ولهم أذرع خارجية، مثل الإخوان المسلمين فى مصر. وكان من نتائج هذه اللقاءات والتشاورات وصول قادة تلك الحركات إلى سدة الحكم، وسط ترحيب أمريكى كبير، ودعم مباشر وغير مباشر، وتدعيم إعلامى وسياسى غير منقطع. نحن الآن أمام وضع ملتبس ومرتبك، فبرغم أن واقعة قتل «بلعيد» لم تكن الأولى فى تونس، لكنها كانت الأبرز والأكثر أهمية، وقد سبقت تلك الواقعة حادثة اغتيال أخرى تعرض لها الناشط محمد لطفى نقز، المحسوب على حركة «نداء تونس»، والذى توفى جراء تعرّضه لإصابات عديدة بأداة حادة فى أماكن مختلفة من جسمه. وهى الواقعة التى تحدث عنها «بلعيد» قبل وفاته بساعات فى مداخلة تليفزيونية مع قناة «نسمة» التونسية، والتى اتهم فيها حركة النهضة مباشرة بتكوين فرق اغتيالات سياسية، ذاكرا واقعة اقتحام وإفساد مؤتمر الحزب الجهوى فى الكاف الذى حطم فيه أنصار النهضة واجهة دار الثقافة، وأفسدوا المؤتمر أمام الشرطة التونسية التى لم تتدخل لحماية حضور المؤتمر، مؤكدا أن بعض عناصر «النهضة» قالت لشباب المؤتمر «لماذا أقمتم هذا المؤتمر من الأساس؟»، وهو القول الذى يكشف أن أنصار «النهضة» لا يستوعبون فكرة وجود معارضة حقيقية، ويتعمدون انتهاكها بشكل منظم، وهو الأمر الذى تكرر فى بلدان الربيع العربى، سواء فى مصر أو ليبيا. تكرار حوادث قتل المعارضين فى تونس يشير بشكل كبير إلى تكرار هذا السيناريو القديم فى الدول العربية، حيث كان العنف هو السبيل الوحيد الذى يسلكه أنصار التيار الإسلامى الأصولى مع المعارضين فى الداخل ثم فى الخارج، وذلك قبل أن يجروا مراجعاتهم التى عقدت تحت سيف الأمن، ويعلنوا تبرؤهم من العنف كلية، والذى أتى بالتوازى مع بداية الضغط الأمريكى من أجل إتاحة الفرصة للإسلاميين، بعد أن أتت رياح سبتمبر بما اشتهته سفن تيار الإسلام السياسى. وما يسترعى الانتباه هنا هو أن نظام مبارك كان من أكبر الداعمين لهذه النظرية، حيث تسبب تلويحه الدائم بمقولة «يا أنا يا الإخوان» أثناء وبعد انتخابات 2005، وبعد صعود حركة حماس لحكم فلسطين، فى ترسيخ نظرية أن الإخوان سيحصدون أغلبية فى أى انتخابات ديمقراطية، وبناء على هذا الوعى الذى صادف هوى الأبحاث الاستخباراتية الأمريكية فتح الأمريكان خطا ساخنا مع إخوان مصر والعالم، وكانوا من أكبر داعميهم فى الوصول للحكم، وإقناع الأوروبيين بأهمية احتوائهم «ديمقراطيا» لكى لا يصبحوا قنابل موقوتة تنفجر فى وجه المجتمع الغربى، وهو ما أتى بثماره الآن ظنا منهم أن وصولهم للحكم سيجعلهم أقل حدة، وأكثر تسامحا وقبولا للآخر، لكن كل هذه الأحلام تكسرت اليوم بقتل «بلعيد» الذى يشير إلى إعادة سيناريو التسعينيات وقت أن كان الإسلاميون يقتلون كل من يختلف معهم، قبل أن ينتقل عنفهم إلى الخارج، وهو الأمر الذى يؤكد أن أمريكا الآن بحاجة إلى مراجعة أبحاثها التى زعمت فيها أن أسباب العنف الأصولى تتلخص فى حرمانهم من الحقوق السياسية، فقد وصل الإسلاميون للحكم فى تونس، ومع ذلك مازالوا يفضلون العنف، ما يدل على أن المشكلة أعمق والدوافع أكبر، وأن الدعم الأمريكى لم يكن يوما فى صالح أبناء الوطن العربى، ولا أبناء الشعب الأمريكى.