لا يختلف قارئ على أهمية حرب أكتوبر 1973م، آخر الحروب العربية مع إسرائيل، كما صرح بذلك ثعلب السياسة العربية ذات يوم. تلك الحرب المجيدة التى تركت بصمة على العقليتين المصرية والعربية.. بصفة عامة.. بل لا أبالغ إن قلت إن أجيالاً قد شبت وروت بدمائها الزَّكية هذه الحرب. وورثت فكرًا وثقافة مُشبَّعَين بدماء أبطال تلك الحرب التى جاءت من بين أنياب الهزيمة وبراثن اليأس الذى حاق بنا بعد هزيمة مجحفة.. بل ومهينة لجيش لم يُحارِب!! إن حرب أكتوبر 1973م هى الحرب العربية الإسرائيلية الرابعة التى شنتها كلٌّ من مصر وسوريا بدعم عربى وعسكرى وسياسى واقتصادى على إسرائيل. بدأت الحرب يوم السبت السادس من أكتوبر 1973م الموافق العاشر من رمضان 1393 ه بهجوم مفاجئ من قِبل الجيش المصرى، والجيش السورى، على القوات الإسرائيلية التى كانت مرابطة فى سيناء وهضبة الجولان. والتى عُرفت باسم حرب تشرين التحريرية فى سورية، بينما تُعرف فى إسرائيل باسم حرب يوم الغفران وبالعبرية، ميلخمت يوم كيبور). حقق الجيشان المصرى والسورى الأهداف الاستراتيجية المرجوة من وراء المباغتة العسكرية لإسرائيل، وكانت هناك إنجازات ملموسة فى الأيام الأولى من شن الحرب، حيث توغلت القوات المصرية مسافة 20 كم شرق قناة السويس، وتمكنت القوات السورية من الدخول إلى عمق هضبة الجولان. ولكن فى نهاية الحرب انتعش الجيش الإسرائيلى، فعلى الجبهة المصرية تمكن من فتح ثغرة (الدفرسوار) وعبر إلى الضفة الغربية للقناة وضرب حصارًا على الجيش الثالث الميدانى وعلى الجبهة السورية وتمكن من طرد السوريين من هضبة الجولان. هنا تدخلت الدولتان العظميان فى ذلك الوقت.. أمريكا والاتحاد السوفيتى فى سياق الحرب بشكل غير مباشر، وزود الاتحاد السوفيتى سوريا ومصر بالأسلحة، ولكن التمويل الحقيقى لمصر من الأسلحة جاء من تشيكوسلوفاكيا بعد زيارة وزير الخارجية المصرى إلى براغ زيارةً سرية لم يُعلن عنها ولم يعلم بها أحد فى ذلك الوقت، بينما زودت الولاياتالمتحدةالأمريكية إسرائيل بالعتاد العسكرى. وفى نهاية الحرب عمل وزير الخارجية الأمريكى (هنرى كيسنجر) وسيطًا بين الجانبين للتوصل إلى اتفاقية هدنة لا تزال سارية المفعول بين سوريا وإسرائيل. ولكن مصر وإسرائيل بدلتا اتفاقية الهدنة باتفاقية سلام شامل فى "كامب ديفيد" 1979. وانتهت الحرب رسميًّا بين مصر وإسرائيل بالتوقيع على اتفاقية "فك الاشتباك" فى 31 مايو 1974م، حيث وافقت إسرائيل على إعادة مدينة القنيطرةلسوريا، وضفة قناة السويسالشرقية لمصر، مقابل إبعاد القوات المصرية والسورية عن خط الهدنة، وتأسيس قوة خاصة للأمم المتحدة لمراقبة تحقيق الاتفاقية. ومن النتائج العظيمة لتلك الحرب تحطم أسطورة الجيش الذى لا يقهر، والتى كان يقول بها القادة العسكريون فى إسرائيل، كما أن هذه الحرب مهدت الطريق لاتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، والتى عقدت فى 1979م على أثر مبادرة الرئيس الراحل عليه رحمة الله أنور السادات وزيارته التاريخية فى نوفمبر 1977م للقدس، والتى أدت إلى عودة الملاحة لقناة السويس فى يونيه 1975م. لقد كانت الحرب جزءًا من الصراع العربى الإسرائيلى، منذ عام 1948م. ففى حرب الأيام الستة فى يونيه 1967م احتلت إسرائيل مرتفعات الجولان فى سوريا فى الشمال والضفة الغربية لنهر الأردن، ومدينة القدس، وشبه جزيرة سيناء المصرية فى الجنوب، ووصلت إلى الضفة الشرقية لقناة السويس. أمضت إسرائيل السنوات الست التى تلت حرب يونيه فى تحصين مراكزها فى الجولان وسيناء، وأنفقت المليارات لدعم سلسلة من التحصينات على مواقعها فى قناة السويس، فيما عرف بخط بارليف. فبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر - عليه رحمة الله - فى سبتمبر 1970م، وتولى الرئيس أنور السادات الحكم، بدأ - عليه رحمة الله - العمل على حلحلة الأمور حتى تعود إسرائيل لمواقعها قبل الخامس من يونيه 1967م ولكن المحاولات باءت بالفشل، وجاء رفض إسرائيل لمبادرة روجرز عام 1970م، والامتناع عن تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 فى التفكير جديًّا فى الحرب لاسترداد ما سُلب من الأرض وما خسره العرب فى 1967. وجاءت الخطة والتخطيط للحرب، والخداع لأجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية، ومُباغتة إسرائيل بهجوم من كلا الجيشين، المصرى والسورى.. بهجوم موحد ومفاجئ، فى يوم السادس من أكتوبر، فهاجمت القوات السورية التحصينات الإسرائيلية فى مرتفعات الجولان، بينما هاجمت القوات المصرية تحصينات إسرائيل بطول القناة وفى عمق شبه سيناء. وافتتحت مصر حرب 1973 بضربة جوية تشكلت من نحو 222 طائرة مقاتلة عبرت قناة السويس لتدمير الخط الرادارى للجيش الإسرائيلى فى تمام الساعة الثانية بعد الظهر على ارتفاع منخفض للغاية. وقد استهدفت الضربة أيضًا محطات الشوشرة والإعاقة فى أم خشيب وأم مرجم ومطار المليز ومطارات أخرى ومحطات الرادار وبطاريات الدفاع الجوى وتجمعات الأفراد والمدرعات والدبابات والمدفعية والنقاط الحصينة فى خط بارليف ومصافى البترول ومخازن الذخيرة. وكانت الضربة عبارة عن ضربتين متتاليتين قدر الخبراء الروس نجاح الأولى بنحو 30%، وخسائرها بنحو 40% ونظرًا للنجاح الهائل للضربة الأولى الذى بلغ نحو 95% بخسائر نحو 2.5% تم إلغاء الضربة الثانية. وكان الطيارون المصريون يفجرون طائراتهم فى الأهداف المهمة والمستعصية لضمان تدميرها، ومنهم على سبيل المثال (محمد صبحى الشيخ)، و(طلال سعد الله)، وعاطف السادات، شقيق الرئيس السادات، وغيرهم. ونجحت مصر وسوريا فى تحقيق نصر للأمة العربية أجمع، إذ تم اختراق خط بارليف "الحصين" خلال ست ساعات من بداية المعركة، وأوقعت القوات المصرية خسائر كبيرة فى القوة الجوية الإسرائيلية، ومنعت القوات الإسرائيلية من استخدام أنابيب النابالم بخطة مدهشة، وأجبرت إسرائيل على التخلى عن العديد من مواقعها فى سوريا ومصر. ومن هنا كانت الأهمية البالغة لهذه الحرب التى رسمت صفحة جديدة فى تاريخ المنطقة، وأقامت نظريات وحقائق وأسقطت أخرى. ولقد فكرت وقرأت مذكرات من شاركوا فى هذه الحرب فوجدتها مراجع نستلهم منها الدروس والعبر. ولعلها تعطينا أملاً فى الغد الذى ربما يحمل بين ثناياه شعلة تحتاج لمن يرفعها لينير لنا الطريق.. ويفتح لنا فى جوف الليل طريقا إلى نصر يعيد الأمجاد ويحيى القلوب والعقول بعد طول سُبات!!! تحية لبطل الحرب والسلام.. تحية لكل من شاركوا فى حرب الفخار العظيمة (حرب السادس من أكتوبر - العاشر من رمضان).. تحية لخير أجناد الأرض.. جنود جيش مصر المغاوير.. ولتسلمى يا مصر أبد الدهر.