هل جربت يوماً ذلك الشعور الغريب بالارتياح بمجرد أن تجلس على كرسيك المفضل في المقهى، أو حينما تَلِجُ بوابة النادي، أو حتى عند وقوفك لتبادل الحديث مع الأصدقاء على "الناصية"؟ إنها لحظة فاصلة، كأنك تخلع مع معطفك أثقالاً غير مرئية كنت تحملها طوال اليوم في تلك الزوايا، أنت لست "الموظف" المُطالَب بإنتاجية محددة، ولست "رب الأسرة" المُحاصر بقائمة الالتزامات المنزلية؛ أنت هنا "أنت" فقط، مجرداً من الألقاب والأعباء. هذا الشعور ليس مجرد رغبة عابرة في الترفيه، بل هو جوهر ما يُطلق عليه في علم الاجتماع الحضري مصطلح المكان الثالث (The Third Place). صاغ عالم الاجتماع "راي أولدنبرج" هذا المفهوم ليشير إلى تلك المساحات الاجتماعية التي لا هي "بيتك" (المكان الأول)، ولا هي "عملك" (المكان الثاني). إنها تلك الجزر المعزولة التي نلجأ إليها طواعية لنستعيد توازننا النفسي، ونرمم ما أفسده روتين الحياة اليومية. تكمن عبقرية "المكان الثالث" في كونه أرضاً محايدة؛ فالحضور فيه طوعي، والمغادرة اختيارية. في البيت تحكمنا تراتبية العائلة، وفي العمل تحكمنا سلطة الإدارة، أما في "القهوة البلدي" أو "الصالون الثقافي" أو الأماكن العامة، فالجميع سواسية. هذه الأماكن تعمل ك "مُذيب للفوارق الطبقية"؛ حيث يمكن للطبيب أن يجلس بجوار الحرفي، يجمعهما كوب شاي وحديث عفوي عن أحوال الدنيا، فتسقط الحواجز وتزدهر ما نسميه "ديمقراطية الحديث". وإذا تأملنا واقعنا المصري، سنجد أننا نمتلك تراثاً عريقاً في صناعة هذه الأماكن. كانت "المصطبة" أمام البيوت في الريف، و"حوافيز" الحارات في المدن، هي الرئة التي يتنفس منها المجتمع. كان المكان الثالث "مجالياً" ومتاحاً للجميع، نسيجاً حياً يربط الناس ببعضهم البعض، وتُحل فيه المشكلات ودياً بعيداً عن ساحات المحاكم. لكن، ومع تحولات الحياة الحديثة، بدأت طبيعة هذا المكان تتغير. تحولنا تدريجياً من "القهوة" المفتوحة للشارع وضجيجه المحبب، إلى "الكافيه" المغلق بالزجاج المكيف، ومن "الساحة العامة" إلى "المول التجاري". ورغم أن هذه الأماكن الحديثة توفر راحة أكبر، إلا أنها -من منظور سوسيولوجي- قد تفرض نوعاً من "الإقصاء المادي"، حيث أصبح الدخول إليها مشروطاً بالقدرة الشرائية، مما حول "الأُلفة" إلى "سلعة". حتى محاولاتنا لاستبدال هذه الأماكن ب "مجموعات الفيسبوك" أو "غرف الدردشة" تظل محاولات ناقصة؛ فالشاشات الباردة لا يمكنها تعويض دفء التواصل الحي، ولا الضحكات العفوية التي تجمع الغرباء وتجعلهم أصدقاء ولو لساعة واحدة. في نهاية المطاف، يجب أن ندرك أن وجود مكان ثالث في حياتنا ليس نوعاً من الرفاهية أو إضاعة الوقت، بل هو ضرورة للصحة النفسية وللتماسك المجتمعي. إن المساحة التي نتذكر فيها أننا كائنات اجتماعية تحتاج إلى التواصل المباشر. لذا، حافظ على "مكانك الثالث" واحرص عليه، فهو متنفسك الحقيقي في عالم يزداد اختناقاً.