سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
كيف تفكر نيويورك؟.. مدينة ترامب تتحول إلى بوابة صعود اليسار فى أمريكا وتضع خارطة انتخابية جديدة.. محللون: فوز «ممدانى» يمثل نقطة تحوّل فى السياسة الأمريكية ورد شعبى على الإحباط من المؤسسات الرسمية
الحزب الديمقراطى لن ينجو من اختبار 2026 إلا بشخصيات استثنائية على طريقة ترامب المهاجرون والمسلمون كلمة السر فى انتصار زهران ممدانى.. و33% من يهود نيويورك صوتوا للعمدة المسلم رغم دعمه لغزة.. «ممدانى» يقود عودة الديمقراطيين للحكم.. «ترامب» سيفقد أغلبية النواب والشيوخ فى انتخابات 2026.. و«التضخم وارتفاع أسعار الإيجار وانخفاض الأجور» ثلاثية قادت لانتخاب «الأجندة اليسارية» لا تحتاج نيويورك إلى بحث معمق حتى تفهمها، يكفى أن تقف فى محطة المترو الأشهر «جاكسون هايتس» أو «روزفلت أفينيو» لتقرأ المشهد كما هو، حيث هناك عائلات هندية تحمل وجبات «دوسا» فى طريقها إلى العمل، ومهاجرون لاتينيون ينتظرون يومية فى مواقع البناء، ومسلمون من بنجلادش وباكستان يتجهون إلى صلاة الظهر، وصينيون يديرون محالا صغيرة لا تغلق أبوابها ليلا. هذه المدينة التى تُعد المركز المالى والإعلامى الأهم فى الولاياتالمتحدة، تتحدث أكثر من 800 لغة ولهجة، وفق بيانات مكتب الإحصاء الأمريكى، ويعيش فيها نحو 3.1 مليون مهاجر من أصل نحو 9 ملايين نسمة، أى ما يقارب 36% من سكانها، وهى بذلك أعلى كثافة مهاجرين فى البلاد، وتدير ميزانية ضخمة تقارب 115 مليار دولار سنويًا. هذا الخليط البشرى ليس خلفية للمشهد، بل هو المشهد الأساسى، وهو المفتاح الحقيقى لفهم كيف تحولت نيويورك- مدينة ترامب سابقًا- إلى أول مدينة كبرى تنتخب زهران ممدانى، عمدة مسلم، أصوله جنوب آسيوية، يحمل برنامجًا تقدميًا راديكاليًا. من ضغوط الحياة اليومية إلى التحول الانتخابى بدأت القصة فى 4 نوفمبر 2025، عندما شهدت نيويورك أول انتخابات محلية منذ تولى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ولايته الثانية، وكانت هذه الانتخابات المحلية فى الواقع اختبارًا مبكرًا لاتجاهات التصويت فى الولاياتالمتحدة قبل انتخابات الكونجرس المرتقبة فى 2026، التى تأتى وسط انقسامات حادة وإغلاق حكومى مستمر. ورغم أن تلك الانتخابات المحلية حملت للحزب الديمقراطى العديد من المكاسب فى ولايات، مثل فيرجينيا ونيوجيرسى، فإن الحدث الأبرز كان هو انتخاب ممدانى عمدة لنيويورك، ذلك التطور الذى اعتُبر مؤشرًا على إعادة تشكّل ميزان القوى داخل الحزب الديمقراطى فى مواجهة التيار اليمينى بقيادة «ترامب». يؤكد الباحث السياسى محمد العالم أن فوز «ممدانى» أعاد الحزب الديمقراطى إلى الواجهة من جديد بعد خساراته المتتالية فى الرئاسة والكونجرس على مدار العامين الماضيين، بعد أن استطاع ترامب جذب الناخبين بفضل شخصيته الاستثنائية، الأمر الذى وضع الحزب الديمقراطى فى أزمة كفاءات وكوادر، وكان لزامًا عليه أن يتبنّى فكرًا جديدًا أو استثنائيًا من نوع «ممدانى» ليعود للواجهة مرة أخرى، شخصية قادرة على مخاطبة قطاعات المجتمع، التى لم تعد تقتنع بالطريقة التقليدية لإدارة شؤونها من داخل الأطر القديمة. يرى العالم أن فوز «زهران» يعنى أن الحزب الديمقراطى لن ينجح فى تجاوز استحقاق انتخابات التجديد النصفى فى نهاية 2026 أو تحدّى الرئاسة المقبلة إلا بأعضاء متمرسين وغير تقليديين على شاكلة زهران ممدانى، أعضاء لديهم القدرة على إدارة الملفات بطريق مختلفة، ووصولهم إلى كل فئات المجتمع، وليس فقط فئات معينة كانت تمثلها النخب التقليدية فى العقود السابقة. معاناة نيويورك خارج حسابات البيت الأبيض لكن هذا الفوز ليس وليد اللحظة بل له خلفية اقتصادية معقدة مرتبطة بمدينة نيويوركالمدينة المزدحمة، التى تعيش موجة تضخم متصاعدة وصلت ذروتها إلى 9.1% منتصف 2022، قبل أن تتراجع تدريجيًا إلى 3.2% فى سبتمبر 2025، وفقا لمكتب إحصاءات العمل الأمريكى، لكنها بالنسبة للطبقة العاملة لم تتراجع فعليًا، حيث قابلها موجة ارتفاع أخرى فى أسعار الإيجارات بنسبة 33% خلال أربع سنوات، وزيادة سنوية فى 2025 فقط بنسبة 4.7%، وفى بعض المقاطعات، أصبح متوسط الإيجار يمثل أكثر من 50% من دخل الأسرة النموذجى. احتلت مدينة نيويورك المركز الأول بقائمة أغلى المدن، من حيث تكلفة إيجار الوحدات السكنية فى 2024، وبلغت قيمة الإيجار الشهرى للوحدة السكنية الصغيرة فى مدينة نيويورك 4,200 دولار، بنسبة زيادة 11.1% عما كانت عليه فى 2023، وفقا لدراسة أمريكية نشرتها «فايشوال كابيتالست». وإلى جانب زيادة التضخم وارتفاع أسعار الإيجارات، ارتفعت أسعار الغذاء خلال عام- من أغسطس 2024 إلى أغسطس 2025 - بنسبة 3.6%، أما تكاليف رعاية الأطفال، فقد وصلت إلى 21 ألف دولار سنويًا للطفل الواحد، وهو ما يعادل نحو ثُلث متوسط دخل الأسرة، وفقا لمكتب إحصاءات العمل الأمريكى. كما تقدم مؤشر الطاقة بنسبة 5.4%، على الرغم من انخفاض أسعار البنزين بنسبة 8.5%، وأسعار التعليم والاتصالات شهدت ارتفاعا بنسبة 3.4%، بما فى ذلك زيادة بنسبة 6.0% فى الرسوم الدراسية ورسوم المدارس الأخرى ورعاية الأطفال.
كيف صنع المهاجرون طريق «ممدانى»؟ هذا التوتر الاقتصادى والاجتماعى الذى استهدف فئات بعينها، وهى المهاجرون والعمال غير الرسميين والشباب من السود واللاتينيين والمجتمعات المسلمة والجنوب آسيوية. كانت الشرارة الأولى لفوز «ممدانى»، ففى نيويورك، يعيش أكثر من 1.6 مليون آسيوى وجنوب آسيوى، بينهم نحو 400 ألف مسلم، إضافة إلى 960 ألف يهودى يشكلون نحو 10% من سكان المدينة، ومن هذه الخريطة الديموغرافية المعقدة، انطلقت حملة «ممدانى» بوصفها حملة «طبقة عاملة ملونة» تبحث عن صوتها. «ممدانى» البالغ من العمر 34 عامًا، ينتمى إلى الديمقراطيين الاشتراكيين، برنامجه الانتخابى لم يكن مجرد شعارات، بل مبنيا على مطالب ملموسة وتمس حياة ناخبيه، منها نقل مجانى بالحافلات، رعاية أطفال مجانية للأسر محدودة الدخل، متاجر تموينية مدعومة، تجميد إيجارات السكن العام، رفع الحد الأدنى للأجور إلى 30 دولارًا فى الساعة. ورغم أن استطلاعات يناير 2025، وفقا لصحيفة El País الباييس، لم تمنح «ممدانى» أكثر من 8% من نيات التصويت له، فإن الحملة التى اعتمدت على متطوعين ومتحدثين باللغات «الإنجليزية، الأوردية، الهندية، والإسبانية» قلبت المشهد لصالحه. يرى البروفيسور حسين الديك، الخبير فى الشأن الأمريكى، أن فوز «ممدانى» لا يعبّر فقط عن تغيير سياسى فى واشنطن، بل عن تحول أيديولوجى داخل الحزب الديمقراطى نفسه، وقال: «هذه الانتخابات كانت ديمقراطية ديمقراطية، أى بين جناحى الحزب الواحد، الجناح التقدّمى اليسارى والجناح التقليدى، وانتصر الجناح التقدّمى اليسارى»، ووفقًا له، فإن هذا الانتصار يعنى أن التيار التقدّمى لم يعد هامشيًا، بل بات فى مركز الحزب، ويمثّل قوة قادرة على تحقيق انتصارات حزبية داخلية ضد التيار القديم. وأضاف: بالرغم من أن منصب عمدة نيويورك مهامه هى مهام داخلية خدماتية تتعلق بالمواطن المحلى فى مدينة نيويورك، مثل الرواتب، والأجور، والإيجارات، ومستوى المعيشة، فإن انتصاره سيكون له انعكاس وتأثير كبير داخليا، وعلى الصعيد الخارجى فى العلاقات الدولية. «ترامب» يقود معركة ضد «ممدانى» انتهت بالفشل وقبل الفوز كانت هناك معركة قوية بين «ممدانى» والحاكم السابق «أندرو كومو» فى الانتخابات التمهيدية، ورغم أن ميزان القوى بدا محسومًا ل«كومو»، لكن النتيجة جاءت عكس كل التوقعات، 56.39% ل«ممدانى» مقابل 43.61% ل«كومو»، وفقا لبيانات The New York Times. ورغم غياب دعم المؤسسة الحزبية، اعتمد «ممدانى» على الطبقة العاملة وسكان الأحياء متعددة الأعراق، وقد شنّ «كومو» حملة ذات طابع معادٍ للإسلام، مدعومًا من ترامب الذى هاجم «ممدانى» بوصفه «شيوعيًا» وهدّد بقطع التمويل الفيدرالى عن المدينة، لكن هذه الهجمات جاءت بنتائج عكسية، إذ تحوّل «ممدانى» إلى رمز مقاومة النزعة السلطوية والترامبية، ما دفع شخصيات ديمقراطية بارزة مثل كامالا هاريس وحاكمة الولاية كاثى هوشول إلى دعمه لاحقًا. مدينة ترامب تنتخب مسلمًا يساريًا الفوز لم يكن محض صدفة، فالمحللون يرونه نتاجًا لعطش صامت لدى فئات شعرت بأن الديمقراطيين التقليديين لم يعد لديهم ما يقدّمونه، وهو ما ساند «ترامب» للفوز بأصوات نيويورك فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبتحليل الأرقام، فإن «ترامب» حصل فى 2020 على نسبة 37.74% فقط من الأصوات فى نيويورك مقابل 60.87% للرئيس السابق جو بايدن، إلا أن إحباط الجمهور من الحزب الديمقراطى فى ولاية بايدن دفع الناخبين لتحويل أصواتهم نحو الجمهوريين، وارتفعت حصة «ترامب» من الأصوات فى نيويورك إلى 44.17% عام 2024 مقابل 55.83% ل«هاريس»، وهو ما تسبب فى فوزه بولايته الثانية. حتى جاءت الانتخابات المحلية قبل أيام، فأعادت حملة «ممدانى» الأمل لطبقات مهمشة كثيرة، فتجاوزت نسبة المشاركة فى نيويورك مليونى ناخب، وصوّت ل«ممدانى» شرائح واسعة بنسب «78% من الشباب، 59% من الآسيويين، 48% من السود، 45% من اللاتينيين، 33% من اليهود»، ورغم الاتهامات بمعاداة السامية بسبب مواقفه من فلسطين، فإن حصوله على نحو ثلث الأصوات اليهودية فى مدينة تضم 960 ألف يهودى، كان تحولا لا يمكن تجاهله. يرى محللون أن فوزه يعكس بروز فئات المسلمين والجنوب آسيويين كقوى انتخابية فاعلة، فيما يُعتبر فوز «ممدانى» أيضا انعكاسًا لخيبة الأمل من أداء الديمقراطيين التقليديين، الذين فشلوا فى حشد المدن الكبرى عام 2024، ما سمح ل«ترامب» بالفوز، لذلك يرى كثيرون هذا الفوز ردا شعبيا على الإحباط من المؤسسة الديمقراطية ومحاولة لاستعادة الثقة عبر وجوه تقدمية جديدة، وفقا لتقرير فوكس. فى حين يقول الباحث السياسى العالم: إن هذا لم يكن فوزًا بين الديمقراطيين والجمهوريين، لأن نيويورك كانت دائمًا ولاية ديمقراطية آمنة، وتحولت نحو الجمهوريين فى الانتخابات الأخيرة، ولكن «ممدانى» أثبت أن الناخب قد يعود للحزب الديمقراطى مرة أخرى إذا وجد فكرا جديدا يمكن أن ينافس، ويمزج بين خطاب شعبى وحلول حقيقية للمشكلات الداخلية فى الولاياتالمتحدة حتى فى السياسة الخارجية، وهو يرى أنه على الحزب الديمقراطى أن يدرك أن «زمن ما قبل ترامب» مختلف تمامًا عن «زمن ما بعد ترامب»، وأن تقديم أفكار جديدة وشخصيات تحمل هذا الطموح هو الطريق الوحيد لتجاوز انتخابات المستقبل. «ممدانى» يخوض مواجهة مع «ترامب» فى المقابل، يواجه العمدة الجديد تحديات كبيرة، منها معارضة محتملة من سلطات الولاية، وتهديدات ترامب بقطع التمويل الفيدرالى ونشر الحرس الوطنى، وصعوبة تنفيذ وعوده الطموحة دون توافق سياسى واسع. فى هذا السياق، يؤكد الباحث السياسى محمد العالم أن المواجهة بين «ممدانى» و«ترامب» ستكون سياسية لا إعلامية، وأن تنفيذ برنامج «ممدانى» لن يتحقق بالشعارات، بل بتواصل مستمر مع الشارع وتقديم سردية مضادة لضغط «ترامب»، مشددا على أن تهديد «ترامب» بقطع التمويل غير قابل للتطبيق بسهولة، لأنه سيواجه طعونًا قضائية قد تجبر الحكومة الفيدرالية على دعم المدينة، وحذر من أن «ترامب» لن يخاطر بإغضاب ولايات متأرجحة قد ترى قراراته عقابًا للمواطن الأمريكى، وليس للحزب الديمقراطى. فوز «ممدانى» قد يكون بوابة لصعود التيار اليسارى لمفاصل السياسية الأمريكية يتجاوز فوز «ممدانى» البعد المحلى ليمثل نقطة تحوّل فى السياسة الأمريكية، فمدينة «ترامب» نفسها تنتخب اليوم مسلمًا مهاجرًا يحمل أجندة يسارية شاملة للطبقة العاملة، فى مشهد يعكس التناقض بين «نيويورك التقدمية» و«أمريكا البيضاء المحافظة» التى يمثلها الرئيس ترامب. يقول البروفيسور الديك: «المعركة الانتخابية المقبلة فى نوفمبر 2026 للتجديد النصفى لمجلس النواب الأمريكى، وثلث أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكى، ستكون حاسمة، ويبدو أنها حٌسمت فى الحزب الديمقراطى لمصلحة التيار التقدمى، وسنرى المزيد من التقدميين من جيل الشاب واليساريين يفوزون فى هذه الانتخابات عن الحزب». ولفت إلى أن «ترامب» سيعيش السنتين الأخيرتين من رئاسته فى ظل أغلبيه ديمقراطية فى مجلس النواب، وربما فى مجلس الشيوخ، ولكن هذا انعكاسه سيكون على الانتخابات الرئاسية فى عام 2028، فمن الممكن أن نشهد مرشح الحزب الديمقراطى من التيار التقدمى وهذا ما سينعكس على السياسة الخارجية للولايات المتحدةالأمريكية برمتها نحو سياسة أكثر اعتدالا وأكثر توازنا فى القضايا الخارجية، خاصة فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط. وهكذا، فإن نيويورك تفكر كمدينة تقول: إنها سئمت من صراع «ترامب» وصراع المؤسسة الديمقراطية، وتريد سياسيًا من قلب أزماتها اليومية، لا من قلب الطبقة السياسية التقليدية، تفكر كمدينةٍ تتحرك بأصوات الشباب والمهاجرين والطبقة العاملة التى دفعتها الإيجارات والتضخم إلى الحافة، تفكر كمدينة تؤمن بأن قوتها فى تنوعها، وأنها فى مواجهة الترمبية تعود إلى جذورها كمدينة مهاجرين، لا كمدينة نخب مالية، ولكنها تساهد رغما عنها فى رسم السياسة الأمريكية الجديدة.