في واحدة من الجلسات الثرية في معرض الشارقة الدولي للكتاب 2025، قدم الباحث المتخصص في علم المصريات الدكتور وسيم السيسي قراءة مختلفة ومتفردة للحضارة المصرية القديمة، تفكيكا للمفاهيم الخاطئة التي التصقت بها، وإعادة وضعها في سياقها العلمي والإنساني الصحيح. جاءت الندوة تحت عنوان "مفاهيم خاطئة عن الحضارة المصرية القديمة"، وأدارتها الشاعرة والإعلامية الإماراتية شيخة المطيري، وسط حضور كبير تابع مداخلات السيسي التي مزج فيها بين التاريخ والفلسفة والدليل الأثري، وبين الحكاية الإنسانية التي شكّلت بدايات شغفه بالمصريات. بدايات الشغف بالمصريات… لحظة اكتشاف قلبت حياته افتتح الدكتور وسيم السيسي حديثه بالتأكيد على عمق علاقته بالإمارات، قائلاً: الإمارات بيتي الثاني، وهذه زيارتي الثالثة"، ثم عاد بالذاكرة إلى سنوات دراسته للدكتوراه في إنجلترا، حيث بدأت شرارة اهتمامه الحقيقي بالمصريات، كان يتردد على حدائق مثل الهايد بارك التي تشهد نقاشات مفتوحة بين مختلف الاتجاهات الفكرية، وهناك سمع رجلاً إنجليزيًا يتحدث بفخر عن ريادة بلاده في الطب والتخدير والعلوم. لكن صوتًا آخر قاطع الحديث رجل إفريقي قال بثقة: أنا الذي أعطيتكم الحضارة، موضحًا أن إنجلترا استمدت علومها من اليونان، واليونان استمدتها من مصر القديمة. يقول السيسي إنه شعر بالخجل حين اكتشف أن الرجل الإفريقي يعرف تاريخ مصر أكثر منه، فكانت تلك لحظة التحول التي قرر بعدها أن يكرّس حياته لدراسة حضارة بلاده وكشف الحقيقة حول عظمة المصريين القدماء. الدين المصري القديم من أهم المفاهيم الخاطئة التي توقف عندها السيسي هو الاعتقاد السائد بأن المصريين القدماء كانوا وثنيين بالكامل، يؤكد السيسي بالدليل الأثري والفلسفي أن الحضارة المصرية عرفت الإله الواحد منذ الأسرة الأولى، وأن إخناتون لم يكن أول من دعا للتوحيد كما يروج. استشهد بنصوص متون الأهرام التي وردت فيها عبارة "واع واع نن سنو"، أي "واحد أحد"، كما توقف عند تطور عدد من المفردات التي انتقلت عبر اللغات، مثل كلمة "كابا" التي أصبحت "كعبة" في العربية و"كيوب" في الإنجليزية، ما يدل على عمق أثر اللغة المصرية القديمة. وعرض السيسي صورًا لجداريات توثق الصلاة المصرية القديمة، التي تضمنت السجود ولمس الأرض بالجبهة، مشيرًا إلى كتابة كلمة "حنفا" أسفل صورة لرجل ساجد، ليقول بثقة: المصريون القدماء كانوا أول الحنفاء في التاريخ"، مستندًا إلى كتاب الباحث نديم عبد الشافي السيار. التوحيد المصرى شهادات هيجل وماسبيرو وديورانت عزز السيسي طرحه باستحضار آراء عدد من الفلاسفة والمؤرخين الذين أكدوا ريادة المصريين في التوحيد، من بينهم هيجل، ماسبيرو، بروجش، وويل ديورانت الذي ذكر في قصة الحضارة أن المصريين كانوا أول من نادى بالإيمان بإله واحد قبل آلاف السنين من الفلسفات اللاحقة. تصحيح مصطلح ظلم المصريين القدماء وأوضح السيسي أن استخدام كلمة "الفراعنة" للإشارة إلى كل المصريين القدماء خطأ شائع، مشيرًا إلى أن كلمة "فرعون" كانت لقبًا للملك فقط، وأصلها "بر–عو" أي "البيت العالي"، أما ربط الكلمة بالظلم والسخرة فقد تأثر بتأويلات توراتية نقلها عالم المصريات البريطاني فلاندرز بتري. بردية وادي الجرف استعرض وسيم السيسي واحدة من أهم الأدلة الحديثة التي غيرت فهمنا لحياة المصريين القدماء بردية وادي الجرف، التي وثقت تفاصيل دقيقة عن بناء الأهرامات من أسماء العمال ورواتبهم إلى إجازاتهم ومراكز علاجهم، وأكد أن هذه الوثائق تنفي تمامًا أسطورة السخرة، مشيرًا إلى كتاب الدكتور محمود السقا ومحمد سليمة اللذين أبرزَا عدالة القانون المصري القديم. وتوقف عند شخصية الملك تحتمس الثالث، مؤسس الإمبراطورية المصرية، الذي لم يقتل ملوك وأمراء الشعوب المهزومة، بل كان يجلب أبناءهم لمصر، ينشؤون فيها ويتزوجون من مصريات، ليصبحوا لاحقًا جزءًا من الإدارة المصرية علامة على إنسانية الحكم المصري. أول تشريع لحقوق الإنسان اختتم السيسي حديثه باستعراض قانون حور محب، آخر ملوك الأسرة الثامنة عشرة، واصفًا إياه بأنه أول قانون لحقوق الإنسان في التاريخ، وأنه يمثل ذروة ما وصل إليه الفكر القانوني المصري. وأعاد السيسي التأكيد على أن الحضارة لم تبدأ في اليونان كما يعتقد البعض، بل في مصر التي أرست مبادئ العدل والتوحيد والإنسانية منذ آلاف السنين، تاركة إرثًا فكريًا وحضاريًا لا يزال العالم إلى اليوم يكتشف جوانب جديدة منه.