"البقاء لله.. شكر الله سعيكم".. العبارة الرائجة والمعتادة للمواساة وأخد الخاطر في حالات الوفاة وداخل سرادقات العزاء لمواساة ومشاركة أهل المتوفى مصابهم الأليم - وكفى الله المُعزين شر المصاب والمناسبة والعزاء - ولكنها اليوم باتت ظاهرة للتباهى والتفاخر بمن يستطيع إقامة السرادقات الفخمة، وتعليق الأقمشة المزركشة والإضاءات البراقة والمقاعد الوثيرة ذات الأطر الذهبية اللامعة، ويقدم الولائم ويعقبها بأطيب المشروبات الساخنة التي تتخللها قصص النميمة المتبعة. ومن يقرأ الآن ما أكتبه يفهم جيدا ما أعنيه، بل وقد يكون معايشا لما أقوله ويرى بنفسه، كيف تحولت سرادقات العزاء لمجالس تفاخر ومباهاة، وتمضي بنا الحياة ولازال البعض يحكم على الناس من خلال مظهرهم أو ملبسهم موقعهم الوظيفى والاجتماعي، وينسى قلوبا نقية وعقولا راسخة، فنحن أصبحنا نعيش بمجتمع غارق في حب المظاهر. معالى الوزير.. جناب المستشار.. سعادة السفير.. الباشا الكبير.. ألقاب أصبحت تتردد على مسامعنا وصرنا معتادين على سماعها داخل سرادقات العزاء.. لا الوزير وزير، ولا المستشار مر من أمام كلية الحقوق، ولا السفير له أى حظ من اللقب الرفيع الذى ناله فى غفلة من الزمان، ولا حتى الباشا يدرك أن عصر الألقاب ولى إلى غير رجعة.. إن هى إلا ألقاب يرميها قائلها للتفخيم من شخص المعزى.. وتجد فزعة انتابت أهل المتوفى لاستقبال المعزى العزيز.. وأصوات تتعالى من جنبات السرادق للترحيب واستقبال الضيف الغالى.. وتوجيهه للجلوس فى صدر السرادق على مقاعد تم تأجيرها بمبالغ خيالية للمعزين أصحاب السيادة والفخامة والسمو.. مشاهد تدعو للأسى الممزوج بالمرارة من أشخاص تجدهم يقطعون الصفوف لتقديم التحية للباشا المصطنع وأحضان وقبلات وكأن سرادق العزاء تحول إلى مناسبة للدعاية الانتخابية.. الجميع يتسابق للترحيب بالمعزى صاحب الطلة والهيبة، يصحب ذلك صرخات من كل الجهات على البوفيه لتقديم واجب الضيافة للعزيز الغالى. في نفس الوقت.. السواد الأعظم من المعزين البسطاء الذين يحرصون على المسارعة لمشاركة أهل المتوفى مصابه دونما أي حسابات لأى مصلحة عكسية لا يجدون من يحنو عليهم.. يضيعون وسط زحام السرادق.. أيادى متثاقلة لرد التحية.. حالة من اللا مبالاة فى الاستقبال.. تبحث أعينهم عن مُرشد يوجههم إلى مكان مقعدهم فلا يجدون من مُجيب.. حتى واجب الضيافة ليس لهم نصيب فيه. اتقوا الله في أنفسكم، فإنها كبيرة عند الله وقد تحسبونها هينة سهلة وبسيطة وتستسهلونها، وكأن الأمر يمكن أن يمر ولا يضر، لكن المناسبات الحزينة فيها ما نجهل أصوله، ودخل الرياء ومظاهر الثراء والتفاخر فيها حتى أصبحنا ننفر من أن نذهب لها رغم حرصنا على أجر مواساة أهل الميت فى مصابهم. لذا أقولها لكم ولي.. ليكن العزاء عزاءً والفرح فرحا والصدقة لمن يحتاجها والثواب لأهله.. أستلهم في نهاية مقالتى جملة اعتاد صديقى المستشار مصطفى حسين على ترديدها دائما.. "كلنا ولاد 9 ".. فاللهم إنى قد بلغت فاللهم أشهد!.