فجأة بعد مئات السنين قرر عدد من عقماء الإعلام وقرادتية الفضائيات، أن يناقشوا ما سبقت مناقشته عشرات ومئات المرات، موضوع الموالد، والتى هى احتفالات مصرية يحتفى بها المصريون بآل البيت، وبمن يرون أنهم أولياء الله الصالحون، وهذا بمناسبة مولد السيد البدوى فى طنطا، والذى يحضره 2 مليون زائر، مثلما يحدث فى مولدىّ «الحسين، والسيدة زينب»، ومولد «العذراء» فى أسيوط، ودميانة وغيرها من موالد، وهى احتفالات تعقد من مئات السنين، ويؤمها مواطنون من كل العقائد والمذاهب، وليسوا جميعا مشركين، هناك من يؤمن بالكرامات والأولياء، وهناك من يذهب ليحتقل مع الآخرين، حيث تسعى الطرق المختلفة لاتخاذ أماكن لها تقدم فيها النذور والطعام، بينما تقام حلقات الذكر، ويغنى الصيِّيت أو المبتهل فى سرادق أو فى الهواء أمام مئات الآلاف. الموالد هى احتفالات لها أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية، ويمكن الرجوع إلى عالم نجيب محفوظ، أو روايات عبدالحكيم قاسم، لنعرف أبعاد هذا العالم، وأيضا كتابات لعلامة الدكتور سيد عويس الذى رصد كيف أن بسطاء الناس يرسلون رسائل للسماء فى أضرحة الإمام الشافعى والسيدة، وهم أناس بسطاء، لا يمكن التشكيك فى إيمانهم، بل هم على الفطرة مثل بعض من نراهم ونجاورهم فى الحج والعمرة وليس لديهم ما يقولونه سوى الدعاء والنظر للسماء، بل إن الأمر أحيانا قد يبدو ساذجا لمن لا يعرف، بينما هو إيمان عميق وتسليم ويقين، أمام مدعى التدين الشكلى، والذين هم من طلاب الدنيا وضيقى الأفق ممن عاشوا سنين يفرزون الكراهية والتعصب والإرهاب والقتل، وأغلب تفكيرهم حول الأعضاء والنساء وليس عن الإيمان والمعاملة. وعلى مدى عقود، عندما تصاعدت أنواع وأشكال من السلفيين التابعين للوهابية أو المستوردين من آسيا وأفريقيا، ذوى البنطلونات القصيرة والعقول الصغيرة، سعوا إلى تحريم الأضرحة، بل وهاجموها، وحاول بعضهم هدمها، بزعم أنها شرك، لكن بقيت الموالد تتصاعد وتنعقد بكل صورها كنوع من التحدى، وقد عشنا عقودا كانت الوهابية الصحراوية تحاول تلوين إيمان المصريين بنوع من التدين الشكلى المتحلق حول الأعضاء والنساء، لكن بقيت طريقة المصريين فى إيمانهم، بعيدة عن التطرف والجلابيب القصيرة والعقول الصغيرة التى اختصرت الإسلام فى سروال وخيال مريض وأربع زوجات. ومع الوقت اتضح أن هذا التدين الجامد كان ينتج بمعرفة المخابرات الأمريكية لمواجهة الاتحاد السوفيتى، ولما توقفت الحرب الباردة انصرفت أمريكا عن وهابيتها، وانصرفت المملكة عن تطرفها ونحت اتجاها آخر - يعاكس ما سبق - بحثا عن طريق آخر. لكن بقى المصريون فى طريقهم، بعيدا عن هذا الهلام، يعيشون حياتهم ويؤمنون بربهم أكثر تسامحا وتنوعا، وبقى التدين المصرى، علاقة أزلية تربط المصريين بالإيمان، منذ أن ابتدعوا الدين والإيمان قبل نزول الأديان السماوية، وبنوا حضارتهم وحكمتهم وفنونهم ونقلوها للعالم، ويحتل آل البيت مكانة خاصة فى قلوب المصريين الذين يحتفلون بكل مذاهبهم ومعتقداتهم بمولد السيدة زينب والحسين والسيد البدوى والعذراء ودميانة، وكل صاحب كرامة، ويعتقد كثيرون - شمالا وجنوبا - بأن مصر محروسة بكل هؤلاء الأولياء، ولهذا عندما ظهر بعض المتطرفين واخترعوا تحريمات وتحليلات لفظهم المصريون إلى خارجها، لأنهم كانوا نبتا شيطانيا. لكن المفارقة أن الجدل عاد بشكل جديد، كأن هناك من يرهقه أن يحتفل المصريون كعادتهم، حيث إن مولدى السيد البدوى او إبراهيم الدسوقى، ومعهما الحسين والسيدة والعذراء ودميانة، هى جزء من أسرار المصريين تنعقد على مدار مئات السنين، لكن جدلا اندلع بشكل مدهش، كأن الموالد تم اختراعها الآن، وانتقل الجدل إلى قناة عربية تبث من مصر، وحاول المذيع أن يدفع ضيفه وهو أستاذ فقه إلى إدانة هذه الموالد وما يصاحبها من تصرفات، وهو أمر بدا مثيرا، حيث بدا المذيع كأنه يعيد أسئلة وهابية، فى وقت تخلت المملكة عن هذا التطرف، والمذيع يعرف أن هذه الاحتفالات أمر تلقائى، ولا علاقة لها بالحل أو بالتحريم، لكن يبدو أن المذيع أراد أن «يهيص فى الهيصة»، استمرارا لسلوك مزدوج، لا يمكنه فيه إخفاء كونه ينطق بلسان «معووج»، وإذا بنا نعيد جدلا يفترض أنه انتهى من سنين وعقود، فلا علاقة للموالد بالإيمان والشرك، ولا علاقة للمصريين بهذا الجدل السلفى الذى انتهى مع الحرب الباردة، ويعود مع حرب «تافهة» كأننا «أمام إيفنت من إياهم» بينما الموضوع أسهل وأبسط. لأن هؤلاء «العميقين» ممن يخترعون معارك من لا شىء، لا يعرفون معنى المولد للناس العادية، بل وحتى هؤلاء الذين يرتدون ملابس ملونة لطرق، أو يبدون بعض « المجذوبية» هم بشر يرتاحون فى هذا العالم، وليس لأى منهم مطالب أو آراء عميقة، تناسب آراء متعددة الألوان والأهداف، ممن يطرح الأمر لنقاش عبثى، وهم لا يعرفون أن مصر تنفرد بهذا العدد من أولياء الله الذين جاء بعضهم من أماكن بعيدة، أو عرف الناس كراماتهم، وبعضهم بالطبع مجهول أو معلوم، باعتبار أنه مرت عليهم قرون طويلة، ومن المفارقات أنه بينما تحتل السيدة زينب والسيدة نفيسة والحسين والسيد البدوى والدسوقى وزين العابدين مكانة خاصة لدى المصريين وعامة المسلمين بمذاهبهم وطوائفهم، فإن مصر كان لها النصيب الأكبر فى رحلة العائلة المقدسة للسيد المسيح عليه السلام والسيدة مريم، اللذين جاءا إلى مصر يبحثان عن الأمان، وسافرا من شرق مصر إلى جنوبها، وهى رحلة مسجلة أيضا تضاعف من شعور المصريين بقيمة أن مصر «مؤمنة ومحروسة»، وهى معتقدات لا تمنع التدين ولكنها تمنع التطرف والكراهية، فهى احتفالات وليست معتقدات.