تتحقق المرحلة الأولى من صفقة إنهاء حرب غزة ويمكن لكل طرف الادعاء بحرية أنه خرج رابحاً من صفقة كهذه، وعلى الرغم من غموض بنود الصفقة، فأن هذا الغموض كما يراه المحللون هو عنصر النجاح الأبرز، إذ يتم الاتفاق على العناوين البارزة ثم مناقشة التفاصيل، ليقول الجميع "نعم" على النوايا ونتفاوض لاحقاً على الديناميكيات. لم يمنع هذا الغموض البنّاء البعض من تحديد الرابحين والخاسرين من واقع ما يتحقق على الأرض. الرابحون: أول الرابحين في هذه الصفقة هو الشعب الفلسطيني الذي عانى قسوة الحرب ودفع ثمناً باهظاً من خيرة أبنائه، لكنه صمد ولم يلهث خلف الوعود الكاذبة بحياة أكثر رغداً خارج فلسطين، انكسرت الآلة الحربية الإسرائيلية على صخرة الإرادة الفلسطينية، وتحطمت أحلام اليمين الإسرائيلي بتهجيرهم قسراً واستبدالهم بمستوطنين لا حق لهم في الأرض. ربحت مصر بإعلائها قيم الحوار البنّاء وانحيازها للحلول السلمية والعقلانية للنزاعات على حساب الحلول العسكرية، ووقوفها كحائط صد منيع أمام كل محاولات الحكومة الإسرائيلية وحلفائها لإقناعها بالتهجير كأحد الحلول الناجزة لإنهاء الحرب. ربحت مصر بتأكيدها على مكانتها في الإقليم كقوة وازنة تتسم بالحلم والثبات على المواقف، حيث لا يمكن لمجموعة من الإرهابيين والمتطرفين جرها إلى ما ليس لها، وبذلك رسخت قيم الأمن القومي في وعي المصريين دون التخلي عن الفلسطينيين لحظة واحدة. عززت مكانتها في وجدان الفلسطينيين فكانت لهم نعم السند وخير داعم. ربح الشارع في كل الميادين والساحات الأوروبية والأمريكية بانتصاره لقيم الحق والعدالة ونصرة المظلوم مما جعل الحكومات تنصاع وترضخ لرغباته بتعليق اتفاقات الأسلحة والتصويت لصالح الاعتراف بدولة فلسطين. ربحت أوروبا بعد أن فرض الشارع على مجتمعات ما بعد الحداثة سؤال الأخلاق في القرن الواحد والعشرين، إذ لا يصح أن يعامل نتنياهو مثل تشرشل أو شارل ديغول مهما حاول التشبه بهما، ولا يمكن لجيش إسرائيل الذي جوّع المدنيين وقصف بيوتهم فوق رؤوسهم وفجّر الريبوتات في الأحياء السكنية والمدارس والمستشفيات أن يمثل قيم العالم الليبرالي الحر. ربح المقاطعون للبضائع الأمريكية والإسرائيلية والمصنّعة في المستوطنات فلولا هذا الضغط الاقتصادي لما هاجر أكثر من 1200 رجل أعمال إسرائيلي إلى بيئة أكثر اعتدلاً واستقراراً. ربح القانون الدولي والمحكمة الجنائية الدولية بتأكيدهما أن هذا العالم لا تحكمه شريعة الغاب، ولا تسوده الفوضى التي تتيح للقتلة ومرتكبي المجازر أن يفلتوا بأفعالهم دون حساب. ربحت الجمعية العامة للأمم المتحدة بانسحاب 77 دولة من القاعة فور اعتلاء نتنياهو المنصة، فالعالم سئم من سماع الأكاذيب، ولا يفضل -ولو كان مستمعاً- المشاركة في سيرك الغرض منه تبرير المجازر بحق مدنيين عزّل. وربحت الأممالمتحدة بتأكيدها على دورها كجهة أممية فاعلة منوط بها التدخل في الصراعات السياسية وتقديم حلول ملحة لا تتعارض مع ميثاقها ولا القانون الدولي. الخاسرون: الشعب الفلسطيني خسر خيرة أبنائه وبناته، ومقدراته ومؤسساته وجامعاته وبنيته التحتية دون أن يفقد أمله في مستقبل أفضل. سيظل الفلسطينيون يعددون خسائرهم لسنوات طويلة بعد هذه الحرب المجنونة. خسرت السلطة الفلسطينية الكثير من حضورها ومكانتها على المستويين الشعبي والإقليمي نتيجة التباطؤ والتثاؤب واكتفائها برد الفعل عبر بيانات مملة ومكررة ولا تحمل جديداً، ولجوئها إلى متحدثين يفتقرون إلى مهارة قراءة مزاج الشارع. أضعفتها إسرائيل وغابت رغبتها في خلق أدوات ضغط حقيقية، أو في وضع خطط فعّالة لخلق مساحة فعل بدلاً من الاكتفاء برد الفعل. خسرت إسرائيل صورتها المزعومة كقوة إقليمية وديمقراطية وحيدة في وسط دول العالم الثالث. تبددت الصورة التي حاولت إسرائيل ترسيخها زوراً لسنوات في الوعي العالمي، فصارت صورتها في أذهان الملايين هي الدولة التي استخدمت الغذاء كسلاح ضد المدنيين والأطفال، والتي قصفت المستشفيات والمدارس والجامعات والمناطق السكنية في القرن الواحد والعشرين، وهي بذلك أصبحت دولة منبوذة لا يرغب أحد في استضافتها في أي فعالية سياسية أو ثقافية أو فنية. ستظل هذه الصورة عن إسرائيل محفورة في وجدان الملايين لسنوات طويلة. كما ستحتاج إسرائيل أيضاً للتعافي من مصائبها الداخلية التي تتمثل في فقدان الشعور بالأمن الشخصي، وفقدان الثقة في الحكومة والشرخ السياسي والاجتماعي العميق، والضرر الذي لحق بالاقتصاد والجيش والجهاز القضائي. حولت حكومة اليمين إسرائيل إلى دولة منبوذة دولياً ومفككة داخلياً حتى صارت أقرب إلى جمهورية موز يحكمها طاغية ومجموعة من المنتفعين. خسر بنيامين نتنياهو الذي تحدى نداءات شعبه، ورغبة المجتمع الدولي بوضع حد لهذه الحرب، فانتهى مطلوباً للجنائية الدولية، منبوذاً من المجتمع الدولي، وبلا مستقبل سياسي يعوّل عليه. تماهى بنيامين نتنياهو مع اليمين المتطرف تماماً، فبدا وكأنه دمية لا تملك من أمرها شيئاً، مما جعله يخسر الكثير من جمهور الوسط الانتخابي، وخسر من قاعدة الليكود التي ربما تقول كلمتها في انتخابات الحزب التمهيدية عمّا قريب. صافرات الاستهجان وصيحات التنديد التي قاطعت خطاب المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف كلما ذُكر اسم نتنياهو رسمت المشهد الختامي الذي يليق بخروج نتنياهو من المشهد السياسي للأبد، وهو الخروج الذي ربما يسعى إلى ترتيبه لمرة أخيرة: عفو عام عن تورطه في قضايا فساد مقابل انسحابه من المشهد السياسي الإسرائيلي. يخرج نتنياهو من أصغر أبواب المشهد السياسي صاغراً منحنياً. على المستوى الدولي، خسرت الولاياتالمتحدة وألمانيا والمجر وأوكرانيا وصندوق غزة للمساعدات الإنسانية والمؤثرين الذين تقاضوا 7000 دولار مقابل كل منشور لصالح إسرائيل، أما الرابح فكانت جريتا ثونبرغ.