فى اعتقادى أن مصر ودبلوماسيتها الرائدة، حققت انتصارا جديدا للقوى الناعمة وتأثيرها فى الذكرى 52 لحرب أكتوبر المجيدة. بلغت ذروة هذا النصر، عندما أعلن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، أنه قد يسافر إلى الشرق الأوسط، الأحد المقبل، مع تقدم المفاوضات بشأن التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب فى قطاع غزة. فى كل عام - ومع حلول يوم السادس من أكتوبر - لا يكون الاحتفال مجرد تذكير بصفحة مشرقة من تاريخنا العسكرى، بل هو وقفة تأمل فى معنى الإرادة، وفى كيفية تحويل النصر إلى منهج حياة. فى هذا العام، ومع الذكرى الثانية والخمسين لانتصارات أكتوبر المجيدة، حملت كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسى أكثر من مجرد تحية لبطولات الجيش المصرى، فقد جاءت لتربط بين عبور الأمس وعبور الحاضر وتحدياته، بين روح الحرب ومعارك البناء. السيد الرئيس استهل فى ذكرى النصر، بالتأكيد على أن "النصر لا يُمنح بل يُنتزع"، أعاد إلى الأذهان تلك المعادلة التى صنعت أكتوبر 1973، وهى أن الإيمان، والتخطيط، والتماسك الداخلى مفاتيح كل إنجاز. لكن الملفت فى حديثه هذه المرة، هو أنه لم يتوقف عند أمجاد الماضى، بل انطلق منه نحو المستقبل، مؤكدًا أن الدروس المستفادة من الحرب ما زالت صالحة لتحديات اليوم، وأن مصر الحديثة تُبنى بالمنهج ذاته الذى خاضت به معاركها من أجل الأرض: الصبر، والإصرار، والعمل الجماعى. جاءت إشارات الرئيس إلى الزعيم الراحل أنور السادات لتؤكد أن السلام لم يكن خيار ضعف، بل قرار شجاع استكمل به المصريون انتصارهم. ومن خلال هذه الرؤية المنظور، قدّم الرئيس السيسى قراءة جديدة لتجربة مصر فى السلام، باعتبارها نموذجًا يوازن بين العدل والاستقرار، ويثبت أن القوة لا تُقاس فقط بالسلاح، بل بقدرة الدولة على صناعة التوازن والاحترام فى محيطها الإقليمي. وفى تطرقه للوضع الراهن، خاصة ما يتعلق بحرب غزة، بدا الرئيس حريصًا على تأكيد ثوابت الموقف المصري، عندما شدد على أن السلام الحقيقى لا يتحقق إلا بالعدل، وأن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة هى الأساس الذى لا يمكن تجاوزه. تلك الرسالة – فى رأيى – تعكس استمرار مصر فى أداء دورها التاريخى كقوة إقليمية مسئولة، تدافع عن الاستقرار وتعمل على حماية أمن المنطقة من الانفجار. على جانب آخر فى خطابه الأخير خلال حفل تخرج دفعة جديدة من أكاديمية الشرطة، ظهر بوضوح الجانب الداخلى فى فلسفة "روح أكتوبر"، حيث ركز الرئيس على الإنسان المصرى باعتباره الركيزة الأساسية للتنمية. الحديث هنا لم يكن عن الجيش وحده، بل عن شباب الشرطة، وعن كل من يسهم فى حماية الوطن من الداخل. كانت رسائل طمأنة واضحة، تعكس ثقة القيادة فى قدرة المصريين على مواجهة التحديات، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية. فى مجمل الخطابين أراد الرئيس أن ينقلنا من فكرة الاحتفال بالنصر إلى مواصلة عبور جديد، فكما عبرت مصر خط بارليف فى 1973، فهى تعبر اليوم خطوطًا أخرى أكثر تعقيدًا: خطوط التنمية، وإعادة بناء الإنسان، وترسيخ مفهوم الدولة القوية القادرة على حماية نفسها من الداخل قبل الخارج. إن روح أكتوبر لم تعد مجرد ذكرى تُستحضر فى الأعياد، بل أصبحت جزءًا من معادلة الحاضر والمستقبل. روحٌ تعنى الإيمان بالقدرة على التحدي، وتجاوز المستحيل، وتحويل الأزمات إلى فرص. وما تحققه الدولة اليوم من مشروعات بنية تحتية وتنمية بشرية واقتصادية، هو امتداد لذلك الانتصار الذى بدأ على ضفاف القناة، واستمر فى وجدان الأمة حتى اليوم. رسالة الرئيس فى هذا العام واضحة: النصر ليس حدثًا يُحتفل به، بل مسارٌ يُستكمل. وإذا كان السادس من أكتوبر قد جسّد عبور الجيش إلى الضفة الأخرى من القناة، فإن مصر اليوم تعبر نحو المستقبل، بروح لا تعرف التراجع، وبإيمان لا يتزعزع بأن هذا الوطن قادر دائمًا على الانتصار. الساعات القادمة ستكون "ساعات حسم " جديدة تضاف إلى سجل الوطنية المصرية ومبادئها، الصالحة للعيش والتطبيق فى كل زمان..