التسريبات التى ظهرت للعلن مؤخراً للرئيس الراحل جمال عبد الناصر فى ذكرى وفاته، والتى يتحدث فيها إلى الرئيس الموريتانى مختار ولد داده تحمل إدانة كبيرة للدول العربية التى زايدت على مصر عقب نكسة 1967، وهى نفسها التى لا تزال تزايد على مصر حتى الآن، هذه المزايدات لم تكن سوى بالحناجر والكلام وتأليب الشعوب العربية، كما أنها تفسر أن تلك المزايدات لم تكن سوى وسيلة لإخفاء العجز والتخاذل والضعف العربى والمتاجرة بالقضية الفلسطينية، وكل هذا لا يزال ماثلا أمام أعيننا قد ينخدع به البعض لكن من يقرأ التاريخ يدرك كذبه وافتراءه . لم تكن هذه التسريبات هى الأولى، ولكن منذ عدة أشهر ظهرت تسريبات أخرى بين عبد الناصر والقذافى، ولكن فى المرتين كان جمال عبد الناصر يحمل مرارة وألم كبيرين يوضحان حجم المعاناة التى يتحملها من هذه الدول وحكامها الذين لم يحاربوا ولم يساعدوا ولم يصمتوا، بل كانوا يوارون تخاذلهم وضعفهم بتلك المزايدات، ولعل هذا يفسر قبول عبد الناصر لمبادرة روجرز فى منتصف عام 1970، قبيل وفاته بعدة أشهر قليلة. وهذا ما جعله عرضة لانتقادات عربية منها سوريا والعراق وغيرهما، وكانت سوريا والعراق قد قبلتا وقف إطلاق النار بعد حرب يونيو 1967 . لكن حين قبله عبد الناصر بعد عامين ونصف وسعى إلى حل سلمى قامت الدنيا ولم تقعد، وتؤكد هذه التسجيلات أنه رأى أن المفاوضات هى الحل الوحيد لحل القضية فى ضوء القوى الأمريكية التى كانت تمد إسرائيل بأحدث الأسلحة، وأمام ضعف وتشتت عربى رأى عبد الناصر أنه سينهى قضية الفلسطينيين فى الأراضى المحتلة إلى الأبد. يقول جمال عبد الناصر فى حديثه مع رئيس موريتانيا فى سبتمبر من عام 1970، وقد بدا صوته منهكا متعبا وحزينا: إننا نواجه مزايدات عربية تسبب لنا أمراضا نفسية أكثر من الإسرائيليين والأمريكان، وهم حين يجلسون معنا يقولون كلاما معقولا، وبعد ذلك فى العلن يقال كلام آخر، ويقول أيضا نحن بيننا وبين اليهود مائتى متر هى عرض قناة السويس، وقد قاتلنا وتكبدنا خسائر وسببنا خسائر لإسرائيل وحدنا، كل هذا على حساب التنمية. الجزائر لم تساعدنا بمليم واحد بعد العدوان، السعودية والكويت وليبيا دفعوا بعد مؤتمر الخرطوم ثم توقف الجميع، وأن مصر التى ساعدت الجميع لن تطلب مساعدات من أحد. لعل ما قاله عبد الناصر يوضح لماذا لجأ الرئيس الراحل أنور السادات إلى مبادرة السلام فى نوفمبر 1977، حيث كانت أمامه التجربة المؤلمة لجمال عبد الناصر ماثلة أمامه، وأنه (عبد الناصر) كان قاب قوسين أو أدنى من التوجه نحو السلام، والسير نحو حل سلمى، وهذا ما يتضح من هذه التسريبات التى ظهرت مؤخراً، فقد اكتشف رئيسا مصر الراحلين أن مصر وحدها فى مواجهة إسرائيل، وأن الكل قد تخاذل. لكن الأول كان مهزوما والثانى منتصران لهذا اتخذ الخطوة بكل شجاعة، وظلت بقية الدول العربية تزايد وتخون وتتهم، وكونت ما سمى بجبهة الرفض لمقاطعة مصر، ونقلت مقر الجامعة العربية من القاهرة، وظلت مصر محاصرة، على الرغم من كونها هى التى فى المواجهة. هذا المشهد يتكرر اليوم بنفس السيناريو مع اختلاف الزمن والتفاصيل، ومن الواضح أن قيادة الدولة المصرية تدرك كل هذه الحقائق فلم تُستدرج ولم تنسحب لعمل يقضى على ما تبقى من القضية الفلسطينية، ولعل كل هذا يدعونا أن نثمن موقف الشعب المصرى الداعم لموقف قيادته وعدم الانجرار وراء مثل هذه المزايدات التى لا يزال من أطلقوها فى حالة احتلال لأراضيهم أو عدم استقرار فى بلادهم .. أدام الله على مصر الاستقرار والأمن.