خلال الأيام الماضية، تصدرت صحة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب واجهة النقاش العام فى واشنطن، بعدما تدفقت شائعات عبر المنصات الرقمية تحدثت عن إصابته بسكتات دماغية، وعن ظهور كدمات مثيرة للقلق فى يديه، بل وصلت إلى الترويج لخبر وفاته، غير أن المشهد تغير سريعًا حين ظهر ترامب علنًا فى ناديه للجولف بفيرجينيا محاطًا بأحفاده، ثم عقد مؤتمر صحفى بالبيت الأبيض فى 2 سبتمبر، واصفًا ما تم تداوله بأنه "أخبار زائفة"، ظهوره ورده المباشر أوقفا موجة الشائعات عن "الوفاة"، لكنهما لم يضعا حدًا للجدل الأوسع حول وضعه الصحى. المعطيات الرسمية المتاحة حتى الآن تفيد بأن الأطباء شخصوا ترامب فى يوليو الماضى بقصور وريدى مزمن، وهو مرض شائع نسبيًا لدى كبار السن يسبب تورم الساقين ويستلزم متابعة دورية لاستبعاد مضاعفات أكبر، أما الكدمات فى اليدين، فقد فسرت بأنها نتيجة طبيعية للمصافحات المتكررة وتناول جرعات وقائية من الأسبرين، هذه التفسيرات لا ترقى إلى مستوى المرض المهدد للحياة، لكنها لا تمنع فى الوقت نفسه من استمرار الشكوك، خاصة مع فترات الانقطاع عن الظهور العام التى تفتح الباب أمام التأويلات. من الناحية السياسية، تكتسب صحة الرؤساء فى الدول الكبرى وزنًا يتجاوز حدودها الطبية، ففكرة "الجاهزية" تعد عنصرًا أساسيًا فى عقد الثقة بين الرئيس والناخبين، فيما تبقى المعلومات الصحية بطبيعتها حساسة وقابلة للتأويل، فى حالة ترامب، يضاعف الاستقطاب الداخلى هذا الجدل، إذ يعتبر معارضوه أن أى إشارة إلى مرض، مهما كانت بسيطة، تعزز المطالب بالشفافية أو بطرح تساؤلات حول ملاءمته للمنصب، أما أنصاره، فيرون فى الشائعات مجرد أداة سياسية لإضعافه وصرف الأنظار عن الملفات الجوهرية كالنمو الاقتصادى أو السياسات الخارجية. الجدل الأخير يكشف عن ديناميكية مألوفة فى عصر الإعلام الرقمى، فراغ قصير فى الظهور العلنى، صورة مجتزأة، ثم تضخيم عبر المنصات الاجتماعية، صورة كدمة فى يد ترامب كانت كافية لتغذية الأخبار عن مرض خطير، وصولًا إلى إشاعات الوفاة. فى المقابل، تلجأ الإدارة إلى ما يمكن تسميته "إدارة الصورة"، عبر اختيار لقطات تعكس الحيوية كالرياضة والعمل المكتبى وأحيانًا عبر تقليل التركيز على العلامات الجسدية، هذه الاستراتيجية ليست حكرًا على واشنطن، فهى ممارسة شائعة فى عواصم العالم الكبرى، لكنها فى البيئة الأمريكية شديدة الاستقطاب تتحول فورًا إلى مادة للانقسام الحزبى، أنصار يرونها بديهية، ومعارضون يعتبرونها "ستار دخان". طرح بعض المراقبين سؤالًا حول ما إذا كانت الإشارات المتضاربة جزءًا من تكتيك اتصالى مقصود لصرف النظر عن قضايا أخرى، لكن القراءة الواقعية تشير إلى أن اللعب بورقة "الضعف الصحى" يتضمن تكلفة مرتفعة، إذ قد يفتح باب الحديث عن تفعيل التعديل الخامس والعشرين من الدستور، أو يضعف الثقة فى الإدارة داخليًا وخارجيًا، لذلك، يبدو الاحتمال الأقرب أن ما يحدث ليس تمويهًا متعمدًا، بل نتيجة التقاء ثلاثة عناصر، اقتصاد الانتباه الرقمى الذى يضخم أى فراغ معلوماتى، فجوة الثقة المستمرة بين الجمهور والمؤسسات، والاصطفاف الحزبى الذى يحول كل التفاصيل إلى مادة للتعبئة السياسية. أهمية الملف الصحى لا تتوقف عند الداخل الأمريكى، بل تمتد إلى الساحة الدولية، وينظر إلى "قدرة الرئيس" بوصفها عنصرًا مؤثرًا فى التوازنات الكبرى، ففي ظل أزمات ممتدة مثل الحرب في أوكرانيا، والتوتر مع الصين، والملفات المرتبطة بالشرق الأوسط، تصبح أى إشارات لضعف القيادة مادة دسمة للمنافسين الدوليين الذين قد يسعون إلى استثمارها في إظهار اهتزاز الموقف الأمريكي، ومن هنا، تتحول الشائعات الصحية إلى أداة ضمن لعبة الرسائل السياسية المتبادلة، بينما تعمل الإدارة على تثبيت صورة "القيادة الفاعلة" عبر التواصل الاستراتيجى المكثف. حتى الآن، لا تشير البيانات الطبية المتاحة إلى مرض "مقعد"، كما لا توجد شواهد مقنعة على تمويه متعمد، الأرجح أننا أمام "عاصفة رقمية" ولدت من معطيات محدودة- تشخيص مرض شائع، كدمات مفسرة طبيًا، وفترات ظهور متقطعة- ثم تضخمت بفعل البيئة الإعلامية المنقسمة، لكن، ورغم محدودية الأساس الطبى، فإن الأثر السياسى لهذه الرواية حقيقى، إذ إنها تختبر ثقة الجمهور فى التصريحات الرسمية، وتمنح كل طرف مادة لتأكيد روايته. في النهاية، يظل التعامل مع هذا الملف رهينًا بإجراءات عملية، بيانات طبية دورية ومحددة، جدول ظهور علنى منتظم، ومعايير صارمة لنشر الادعاءات الصحية، إلى أن يتحقق ذلك، ستظل صحة ترامب، كما كانت صحة رؤساء آخرين فى التاريخ، موضوعًا مفتوحًا للتأويل، تتجاوز حدوده الطبية إلى قلب لعبة السلطة نفسها.