أشعر الآن وبعد مرور 36 عاما، بأنه ما كان ينبغي السعي وراء هذا الشيخ الضرير صاحب أشهر فتاوي التكفير في مصر لإجراء أول وآخر حوار صحفي في حياته ينشر له في صحيفة عربية أو مصرية على مساحة صفحتين، فقد حدث ما تخوفت منه وما سوف يجري عقب نشر الحوار.. قامت الدنيا ولم تقعد ولم يهنأ أديبنا العالمي وقتا كثيرا بفوزه وحصوله على جائزة نوبل للآداب يوم 13 أكتوبر عام 1988..! ربما يختلف معي الكثير من الأصدقاء – وقد اختلفوا بالفعل وعارضوني- في عدم اجراء الحوار ونشره لأنه حسب القاعدة المهنية المعروفة يعتبر "سبق صحفي" وصيد ثمين قد لا يتكرر ولم يتكرر بعدها فقد سافر الرجل الى السعودية ومنها باكستان ثم إلى السودان وعبرها الى الولاياتالمتحدة الأميركية التي أرادت استخدامه كورقة سياسية للضغط على مصر بصفته معارضا سياسيا لنظام الحكم في مصر وقتها، لكنه تحول الى قنبلة موقوتة في واشنطن وتم اتهامه في قضية نيويورك سنة 1993، واعتقلته السلطات الأميركية وصدر ضده حكما بالسجن المؤبد وقضي العقوبة في السجون الأميركية حتى توفى يوم 18 فبراير عام 2017 . وفي الحقيقة كنت سأندم ندما شديدا على عدم اجراء الحوار رغم خطورته..! وكما اكتظت الصحف وباقي وسائل الاعلام بخبر حصول نجيب محفوظ على نوبل، كانت في الوقت نفسه تتابع أنباء التحقيقات مع الشيخ عمر عبد الرحمن وما يتردد عن هروبه خارج مصر والرأي العام منشغلا أيضا به وكأنها كانت مواجهة قدرية وصراع مدبر بين رجلين، أحدهما يمثل رمز الانفتاح الفكري والتحرر الثقافي والتنوير، والآخر يجسد مرحلة الانغلاق والتكفير في تزامن عجيب وغريب. لم يكد يمر سوى 7 شهور فقط على الاحتفالات وندوات التقدير والتكريم للأديب العالمي التي زخرت بها المؤسسات الثقافية والصحفية والاعلامية ومقرات الأحزاب والنقابات في مصر وغيرها منذ أن تم الاعلان عن الجائزة العالمية. البشر في فرحة طاغية مستحقة بسيد الرواية العربية، من أعلى منصب في الدولة وهو رئيس الجمهورية والحكومة حتى أصغر موظف في مصلحة حكومية. الفرحة أضاءت جوانب المحروسة بشوارعها وحواريها وأزقتها وخاصة " أولاد حارتنا" و " زقاق المدق" و" قصر الشوق"، " بين القصرين"، " والسكرية" ومقهى الفيشاوي و" قشتمر" وأحياء الحسين والدراسة والعباسية، وميرامار في الأسكندرية. بعد 7 شهور لم أكن أعلم أنني سوف أكون متورطا في تكدير أجواء الفرحة – دون قصد بالطبع- بنشر حوار صحفي نادر مع مفتي الجماعة الاسلامية الشيخ عمر عبد الرحمن متصدرا فتواه الشهيرة ب" قتل نجيب محفوظ" بسبب رواية أولاد حارتنا"..!! كيف بدأت الحكاية وكيف تم اللقاء والحوار مع صاحب الفتاوي التكفيرية الشهيرة..؟ في ابريل من عام 1989 وقبل أيام قليلة من بداية شهر رمضان الكرم، كلفني الأستاذ " جميل الباجوري"-رحمه الله- مدير مكتب صحيفة الأنباء الكويتية بالقاهرة على نيل العجوزة بالسفر الى الفيوم واجراء تحقيق صحفى موسع لخريطة جماعات الإسلام السياسى فى صعيد مصر ومنها الفيوم، التقيت خلاله مع قادة وأمراء الجماعة هناك، وأنهيت التحقيق بالحوار مع محافظ الفيوم وقتها المرحوم الدكتور عبدالرحيم شحاتة الذى تولى بعد ذلك منصب محافظ القاهرة.. فى اليوم ذاته عدت إلى القاهرة بعد محاولات حثيثة للقاء الشيخ دون جدوى وخلال العودة للقاهرة قرأت فى صحيفة الأحرار أن الشيخ هرب إلى خارج مصر، وحزنت لعدم إجراء اللقاء، لكن تلقيت مكالمة هاتفية فى مكتب الصحيفة من محاميه بواسطة الزميل والصديق محمود عبدالعظيم، والصديق الراحل أحمد جبيلي، نافيا هروب الشيخ وأنه موجود الآن فى مسكنه بالفيوم «وإذا كانت لديك رغبة فى اللقاء والحوار ، فالشيخ ينتظرك الآن» - هكذا أبلغنى المحامى. لم أفوت الفرصة وكنت فى سنوات التخرج الأولى، وحماس الشباب فى السفر مرتين إلى نفس المكان فى يوم واحد لم يمثل أدنى مشكلة. على الفور أبلغت الأستاذ جميل الباجورى مدير مكتب الأنباء، بالقصة وسافرت على الفور إلى هناك. هل سألتقي بالشيخ الأزهري الذي أصبح في سنوات قليلة مؤسس لأخطر تيار اسلامي في مصر. عمر عبد الرحمن حصل على الثانوية الأزهرية عام 1960، ثم التحق بكلية أصول الدين بالقاهرة ودرس فيها حتى تخرج منها في 1965 بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف وتم تعيينه في وزارة الأوقاف إماماً لمسجد في إحدى قرى الفيوم، ثم حصل على شهادة الماجستير وعمل معيداً بالكلية مع استمراره بالخطابة متطوعاً. في أواخرعام 1969، تم نقله من الجامعة من معيد بها إلى إدارة الأزهر وتم اعتقاله في 13 أكتوبر 1970 بعد وفاة جمال عبد الناصر. وبعد الإفراج عنه، تمكن من الحصول على ال «دكتوراه»، وكان موضوعها؛ «موقف القرآن من خصومه كما تصوره سورة التوبة»، وحصل على «رسالة العالمية» بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، في صيف 1973 استدعته الجامعة وأخبرته عن وجود وظائف شاغرة بكلية البنات وأصول الدين، واختار أسيوط، ومكث بالكلية أربع سنوات حتى 1977، ثم أعير إلى كلية البنات بالرياض حتى سنة 1980، ثم عاد إلى مصر وبدأت رحلته مع الجماعة الاسلامية . أنا الآن أمام "الشيخ الضرير" صاحب أشهر الفتاوى التكفيرية ضد السادات، وبعدم جواز الصلاة على الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، الشيخ عمر عبد الرحمن الذى حاز على ألقاب عدة منها، مفتى تنظيم الجهاد، والزعيم الروحى والمؤسس للجماعة الإسلامية. فكرت فى شكل المقابلة، فاللقاء ليس سهلا لشاب صحفى مثلى، فأنا التقى مع كبيرهم - كبير الجماعة الإسلامية - الذى علمهم العنف والقتل والإرهاب، ومن المفترض أن أناقشه فى آرائه وفتاواه التكفيرية وموقفه من تكفير الدولة، ومن الحوار مع كبار العلماء، ومن حوادث التفجير وقتها والاعتداء على الفرق المسرحية، ومن الفن، ومن الأدب. كان يشغلنى وأنا فى الطريق إليه هو مدى تقبله للانتقادات والأسئلة وهل سأواجه بمنزل تحيطه قوات الأمن من كل جانب ويصبح الدخول إليه صعبا وتوجيه الأسئلة لى حول الغرض من الزيارة والتأكد من شخصيتى وغيره، خاصة أننى لم أكن حصلت على عضوية نقابة الصحفيين. كل شيء سار بشكل طبيعى والأجواء كانت طبيعية إلا من عدد قليل من عربات الشرطة ونفر من أفرادها يراقبون المكان، صعدت إلى شقة الشيخ وأظن أنها كانت فى الطابق الثانى وطرقت الباب وفتح لى على ما أظن ابنه عبدالله أو عمار، وكان لم يغادر سن 11 عاما على ما أتذكر.. جاء الشيخ وصافحنى وجلس يتحدث بصوت هادئ عن الصحيفة وطبيعة الحوار، ثم فوجئت به يأمر ابنه بإحضار جهاز كاسيت كبير، وقبل أن أبادر بالسؤال عن السبب قال لى: سوف أقوم بالتسجيل أيضا للحوار معك يا أستاذ عادل. ودار الحوار وآلات التسجيل بينى وبينه.. واستمر الحوار من بعد العصر حتى وقت قريب من آذان المغرب. الحقيقة أن الحوار كان شاملا لكل شيء ومواجهة صحفية، ربما لم يُجرها أحد من قبل مع الشيخ عمر عبدالرحمن وأفكاره أو من بعد، فقد تم إلقاء القبض عليه بعد 48 ساعة من نشر الحوار، ثم بدأت رحلة خروجه أو هروبه إلى السودان ثم الولاياتالمتحدةالأمريكية حتى توفى هناك.. واجهته بكل شيء وتقبل الأسئلة الصادمة له.. عن تكفيره للمجتمع والحكومة وهو موظف يتقاضى راتبا من الأزهر، سألته عن الفن والغناء والسياسة، حوار تم نشره على صفحتين كاملتين بصحيفة الأنباء. فتوى نجيب محفوظ، جاءت فى السؤال الأخير أو قبل الأخير ، عندما سألته عن الكاتب الإيرانى سلمان رشدى صاحب كتاب «آيات شيطانية»، فجاءت إجابته الصادمة بأنه «لو كنا قتلنا نجيب محفوظ لتأدب وارتدع سلمان رشدى» فى إشارة إلى رواية الأديب العالمى، الذى كان قد حصل قبلها بعام على جائزة نوبل العالمية فى الأدب عن مجمل أعماله الروائية وخاصة "أولاد حارتنا". دار نقاشا صحفيا مع الأستاذ جميل الباجوري حول العنوان الرئيسي وكان رأيي عدم ابراز سؤال الفتوى لأنه سيحدث دويا كبيرا داخل مصر وخارجها خاصة وأننا مازلنا في أجواء الاحتفال بصاحب نوبل. كان الحكم الأخير للأستاذ جميل ..! بعدها ورغم مصادرة العدد فى مصرفي أول أيام شهر رمضان، قامت الدنيا ولم تقعد بسبب فتوى الشيخ بقتل نجيب محفوظ، وهاجت الأوساط الأدبية والسياسية والأمنية أيضا على حوار الشيخ، وخاصة فتواه التى غطت على باقى الإجابات المثيرة.. وأذكر للأمانة أن أجهزة الأمن وأثناء تحقيقها مع عمر عبدالرحمن لم ينف حواره وفتواه التى جاءت فى الحوار. وكتب الأستاذ موسى صبري في عموده بالأخبار مقالا عن الحوار عنوانه " حوار خطير جدا جدا جدا" كان عبارة عن بلاغ واضح وصريح لأجهزة الأمن بكيفية السماح باجراء مثل هذا الحوار ونشره ..! المفارقة غير السعيدة أنه بعد 6 سنوات جاءت حادثة محاولة قتل نجيب محفوظ على يد شابين من المتطرفين والمهووسيين بفكر عمر عبدالرحمن، في أكتوبر96 بطعنه بسكين في عنقه واعترفا أنهما حاول قتل محفوظ لأنه سمعا بفتوى الشيخ رغم أنهما لم يقرأ الرواية أو أية رواية لنجيب محفوظ. وفيما بعد أُعدم الشابان المشتركان في محاولة الاغتيال رغم تعليق الأديب العالمي بأنه غير حاقدٍ على من حاول قتله، وأنه يتمنى لو أنه لم يُعدما. وخلال إقامته الطويلة في المستشفى، زاره الشيخ محمد الغزالي الذي كان ممن طالبوا بمنع نشر أولاد حارتنا وعبد المنعم أبو الفتوح، القيادي السابق في حركة الإخوان اتصل بى كثير من الأصدقاء يذكروننى بالحوار الشهير في " الأنباء" الكويتية قبل 9 سنوات، وداعبني الصديق الصحفي الكبير سليمان الحكيم – رحمه الله- بأنني المتهم الأول في محاولة القتل..! ورغم وفاة نجيب محفوظ في 30 أغسطس 2006 ورحيل عمر عبدالرحمن في فبراير 2017، فسوف تظل تلك الفتوى واحدة من أشهر فتاوى الشيخ الضرير لأنها لم تكن تتعلق بشخص وإنما بتيار تنويري يحارب تيار الظلام والتكفير.