الاعتراف "المشروط" بالدولة الفلسطينية، هو الطرح الذي أعلنته حكومة كير ستارمر في بريطانيا، حيث رهنت الخطوة بإنهاء حرب الإبادة التي تشنها حكومة الاحتلال في قطاع غزة، وهو ما يبدو إيجابيا، عند النظر إلى الإعلان للوهلة الأولى، فتحمل قدرا من التعاطف مع القطاع وسكانه، بينما تمثل إدانة ضمنية إلى الانتهاكات المرتكبة، منذ ما يقرب من عامين، أدت إلى قتل آلاف النساء والأطفال والشيوخ، ناهيك عن استهداف المستشفيات والمنازل وغيرها من المنشآت المدنية، ولكن عند التمعن في حديث لندن، نجد أنه ثمة أبعادا غائبة، يتجلى أبرزها في أن قرار وقف الحرب سيمنع الخطوة المنتظرة، وهو ما يحمل في طياته غيابا لفكرة الانتصار لمبادئ العدالة والشرعية الدولية، والقائمة في الأساس على حل الدولتين وتأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967. الطرح البريطاني يبدو مختلفا تماما عن كافة الأطروحات الأخرى في هذا الإطار، فدول أوروبا التي سبق لها وأن أعلنت الاعتراف بالدولة الفلسطينية، أو تلك التي أعلنت عن اعتزامها اتخاذ الخطوة نفسها في سبتمبر المقبل، لم ترهنها بالأوضاع الميدانية على الأرض، وهو ما يعكس إدراكا عميقا بحقائق عدة، أهمها أن استمرار الاحتلال حتى اللحظة الراهنة، يمثل السبب الرئيسي فيما آلت إليه الأمور في أحداث السابع من أكتوبر، وما تبعها من تداعيات صعبة، لم يدفع ثمنها سوى الأبرياء من البشر، وبالتالي تبقى الضمانة الوحيدة لتحقيق استقرار مستدام في تلك المنطقة الملتهبة منذ عقود طويلة من الزمن، تتجسد في الانتصار للدولة الفلسطينية المستقلة، والتي تمثل في جوهرها لب الشرعية الدولية التي سبق للعالم وأن ارتضى بها منذ أكثر من 3 عقود. وبالنظر إلى المواقف البريطانية من القضية الفلسطينية، نجد أنها تعكس تماهيا كبيرا مع مصالح إسرائيل، والتي قامت في تلك الرقعة الجغرافية على أساس وعد "بلفور"، في عام 1917، بينما سعت إلى حمايتها عبر رعاية جماعات وفصائل، من شأنها إثارة الانقسام بهدف تفتيت المعسكر الداعم لفلسطين، لصالح الدولة العبرية، منذ ما قبل تأسيسها في عام 1948، فكانت جماعة الإخوان، والتي تأسست في عام 1928، أحد أهم التنظيمات التي استبقت الإعلان عن قيام إسرائيل، والهدف منها تفتيت الدول العربية، وتقسيمها، وإثارة الفوضى في داخلها، باعتبارها التكتل الأكبر والأكثر دعما لفلسطين، بعد احتلالها، وهو المخطط الذي مازال ساريا، منذ ذلك الحين، وإن كان "الربيع العربي" هو ذروة تجلياته، عبر ولادة تنظيمات من رحم التنظيم الأم، بدءً من القاعدة وداعش، وبينهما فصائل أخرى، بعضها رفع لواء الدعوة والبعض الآخر ادعى الوطنية، ولكنها في نهاية المطاف لم تخدم سوى مصلحة إسرائيل. الاعتراف البريطاني المشروط بفلسطين، يتماهى في واقع الأمر مع الدعاية التي تتبناها الفصائل والتنظيم "الأم"، حيث يمثل اختزالا صريحا للقضية والدولة المنشودة، بالقطاع والجرائم المرتكبة بداخله، وهو نفس خطاب الجماعة، التي طالما اختزلت القضية جغرافيا وسياسيا، فكانت القدس هي بوصلتها قبل ذلك، لإضفاء صبغة دينية، تمنح قدرا من القدسية على خطاب المقاومة، بينما تحولت الآن نحو غزة، والتي باتت قبلة الجماعة و"إخوانها"، باعتبارها الرقعة الخاضعة لسلطة الفصائل، حتى وإن كان الثمن هو تعزيز الانقسام وانهيار القضية، والتضحية بالدولة المنشودة، وما سفك من أجلها من دماء العرب منذ 1948 حتى الآن. خطورة الموقف البريطاني، لا يقتصر في تداعياته على القضية الفلسطينية ومستقبلها، والتي اعتادت غياب النزاهة الدولية، منذ بزوغها، وهو ما بدا في العديد من مراحلها، وإنما يمتد إلى المسار الأوروبي، في إطار تفتيت مواقف القارة، والتي تسعى إلى تحقيق قدر من الاستقلالية عن واشنطن، في ضوء سلسلة الاعترافات الأحادية بالدولة المنشودة، دون تنسيق مع واشنطن، بينما تحمل تداعيات أخرى على مصداقية المواقف البريطانية تجاه قضايا أخرى، وفي القلب منها أوكرانيا، خاصة وأن العداء الظاهر تجاه موسكو، لا يمثل الحقيقة الكاملة، وهو ما بدا في مواقف سابقة، أبرزها مساعي رئيسة الوزراء السابقة، مارجريت تاتشر، والمعروفة ب"المرأة الحديدية"، لإنقاذ الاتحاد السوفيتي من الانهيار في أواخر الثمانينات، في عهد الرئيس ميخائيل جورباتشوف، إلى حد القيام بدور الوسيط بينه وبين نظيره الأمريكي رونالد ريجان، في ظل قناعة بريطانية أن القيادة البريطانية لأوروبا مرهونة بوجود خصم قوي، على غرار روسيا، يمكن التلويح به في مواجهة الأوروبيين. العلاقة بين لندن والفصائل والجماعات والمسلحة في منطقة الشرق الأوسط، تتشابه إلى حد كبير مع رؤيتها لموسكو، فالعداء الظاهر، لا يمثل الحقيقة الكاملة، وهو ما يبدو واضحا في التماهي في المواقف، تجاه القضية الفلسطينية، بينما يبقى خطاب الإدانة والتنديد مجرد ستار للتغطية على الواقع. التماهي "الثلاثي" بين بريطانيا وإسرائيل والجماعة، لم يقتصر على تجريد القضية من شرعيتها، وتقليصها سياسيا، وإنما امتد إلى استهداف أقوى أطراف المعادلة الإقليمية دعما للقضية، وفي القلب منها مصر، وهو ما يبدو منذ رعاية الجماعة في مصر في العشرينات من قرن الماضي، على حساب الأحزاب العريقة، مرورا بفتح أراضيها أمام أقطابها، لسنوات طويلة، خاصة في أعقاب إنكسار الربيع المزعوم، وحتى تقديم الحماية لمنتهكي أمن السفارة المصرية في لندن، في خطوة تمثل امتدادا للمشهد العبثي في السفارة بتل أبيب، وهو ما يعكس وحدة الهدف، بينما تبقى الأداة واحدة في الحالتين، وهي عناصر الجماعة. وهنا يمكننا القول بأنه لا يمكن النظر إلى الاعتراف البريطاني "المشروط" بالدولة الفلسطينية كخطوة في صالح العدالة الدولية أو دعماً لحقوق الشعب الفلسطيني، بقدر ما هو امتداد لمسار تاريخي بدأ منذ وعد بلفور، مروراً برعاية جماعة الإخوان وتوظيفها كأداة لتفتيت المعسكر العربي، وصولاً إلى التماهي مع الخطاب الإسرائيلي في اختزال القضية في غزة، وهي الصيغة التي لا تفرّغ القضية من مضمونها فحسب، بل تعكس أيضاً محاولة مكشوفة لإضعاف الدور المصري الذي ظل لعقود حجر الأساس في دعم الشرعية الفلسطينية، في مواجهة محاور تسعى إلى تصفية القضية أو اختزالها في شعارات جوفاء. وهنا تتجلى خطورة المشهد: أن يتحول الاعتراف المنتظر إلى مجرد ورقة ضغط، أو إلى نسخة جديدة من "بلفور"، تكرّس الاحتلال وتضاعف الانقسام، بينما تبقى الدولة الفلسطينية حلماً مؤجلاً، لا يراه العالم إلا من خلال مرآة المصالح الضيقة، لا عبر مبادئ العدالة والشرعية الدولية.