في يوم 15 أغسطس من كل عام يحتفل المصريون بعيد "وفاء النيل" وهو عيد مصري خالص منذ آلاف السنين. والوفاء هنا يعني تقدير وتقديس وامتنان المصريين لهذا النهر القديم الذي يشبه في جريانه السيف الأسطوري ويعتبر شريان الحياة في مصر وقلبها النابض منذ فجر التاريخ، ورمزاً للخير والعطاء. فالمصريون القدماء كانوا يعتقدون أن النيل هو مصدر الخصوبة والنماء، وكانوا يعتبرونه إلهاً يرمز للخير والبركة، وينظرون اليه باعتباره هبة الحياة ومانح الخيرات. ولولا النيل، لما قامت الحضارة المصرية العظيمة. ذكرى وفاء النيل يرتبط بشهر أغسطس وبالتحديد اليوم ال15 منه وارتباطه في أذهان المصريين بواحدة من أقدم وأجمل المناسبات المرتبطة به ، وهي ذكرى تجمع بين عبق التاريخ وروعة الحكاية وجمال الاحتفال. الاحتفال بالعيد بدأ منذ آلاف السنين مع فيضان النيل أو وفاءه ، ويعني أن النيل يمتلئ بالكم الكافي من المياه كل عام. ويبدأ احتفال المصريين بالوفاء كعيد سنوي لمدة أسبوعين بدءاً من 15 أغسطس. كان يحتفل بالعيد بطقوس مختلفة، بما في ذلك تقديم القرابين والذبائح للإله حابي (إله النيل) وتقديم عروس النيل، وهي فتاة تُلقى في النيل كقربان الا أن الحضارة المصرية القديمة لم تعرف عادة التضحية بالبشر في النيل.ولكن هذه العادة تحولت مع مرور الوقت إلى طقوس رمزية. المصريون القدماء كانوا يعتقدون أيضا بأن سبب فيضان النيل كل عام هو دموع إيزيس حزناً على وفاة زوجها أوزوريس. أسطورة «عروس النيل» ارتبطت في أذهان المصريين بعيد وفاء النيل، لكن هذه القصة لم يثبتها المؤرخون والمهتمون ولم يقدم العلماء أية أدلة أثرية أو تاريخية مؤكدة تدل على تقديم المصريين القدماء فتاة جميلة قربانا للنيل، ربما أقام المصريون طقوسا احتفالية ورمزية تليق بمكانة النيل وأهميته لحياتهم التي ساهم النيل في استقرارها على ضفاف النيل وتأسيس حضارة راسخة. ومع ذلك ظلت الأسطورة رمز لفكرة الوفاء والتضحية في سبيل استمرار الحياة وتدفق الخير والنماء. وكما يقول المؤرخ والرحالة الإغريقي الشهير هيرودوت "مصر هبة النيل"، وبالفعل الحضارة المصرية هي هبة النيل، ومعظم الحضارات الكبرى القديمة قامت على ضفاف الأنهار، حيث الاستقرار والزراعة والدولة المركزية، والمؤسسات الدينية والثقافية. ومع ذلك يرى المؤرخ المصري الشهير شفيق غربال أن مصر هبة المصريين أيضا الى جانب أنها هبة النيل، فالمصريون استطاعوا ترويض النيل ومعرفة كيفية الاستفادة القصوى منه، وتنظيم شئون الري والصرف، والتفوق في علم الحساب والفلك، وإلا لماذا لم تقم حضارة قديمة كبرى على امتداد نهر النيل- 6 ألاف و670 كيلومتر من بحيرة فيكتوريا وحتى البحر الأبيض المتوسط- إلا في مصر مياه الفيضان كانت المصدر الرئيسي للزراعة وبالتالي الحياة في مصر واعتقد المصريون القدماء أن الفيضان يأتي نتيجة رضاء الإله حابي وليس لسقوط وهطول الأمطار بغزارة فوق جبال الجنوب في أثيوبيا وأوغندا ومع انحسار المياه تفقد الأراضي الزراعية خصوبتها وتتعرض حياة المصريين للخطر. ومع اكتمال بناء السد العالي عام 1970 بدأت عملية تخزين المياه في بحيرة السد لمواجهة سنوات الجفاف وعدم قدوم الفيضان لتنظيم عملية الري والزراعة وتأمين احتياجات المصريين من المياه. ومنذ العام 70 بدأ الاحتفال بوفاء النيل بصورة رمزية تتجسد في الندوات والمؤتمرات الثقافية وعرض فيلم " عروس النيل" للفنان رشدي أباظة والفنانة لبنى عبد العزيز. وبدا أن أجيال عديدة نسيت مظاهر الاحتفال بالفيضان وأهميته حتى لاحت في الأفق أزمة " سد النهضة" الأثيوبي. وكما يقول صديقي الدكتور محمد عفيفي أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة أن التاريخ يشهد على التعنت الأثيوبي تجاه مياه النيل التي تصل لمصر؛ ففي عصر سلاطين المماليك ومع توسع مصر في السيادة على البحر الأحمر، والتجارة الدولية، هدد امبراطور الحبشة مصر بأنه سيقوم بتحويل مجرى النيل الأزرق ليصُب في البحر الأحمر، حتى لا يصل إلى مصر، ليحرم مصر من شريان الحياة، عقابًا على سيادتها البحرية. واكتشفت مصر بعد ذلك أن الحبشة "أثيوبيا" لا تمتلك تجهيزات هندسية تساعدها على إنجاز هذا المشروع الآثم. وفي النصف الأول من القرن العشرين، وعندما تصاعد مطلب الحركة الوطنية في مصر بجلاء القوات البريطانية عن مصر، هددت انجلترا أنها ستساعد أثيوبيا على بناء "سد القرن" للتحكم في حصة مصر المائية. اذن مسألة التلويح بورقة المياه ليست مسألة جديدة والوعي بها عملية متجددة لدى مصر وقيادتها مدعوما بوفاء المصريين للنهر الخالد شريان الحياة الوحيد في مصر. فالنيل في حقيقة الأمر غاية في الأهمية بالنسبة للمصريين، قديمًا وحديثًا، وهو سر الحياة، ومصدر الفن والالهام والابداع ، وهو أيضا بالنسبة لهم، خط أحمر ومسألة أمن قومي. في الأدب والفن، ظل النيل ملهمًا للشعراء والموسيقيين والرسامين، كتب عنه أمير الشعراء أحمد شوقي قصائد تمجد عطاياه، وغنى له عبد الوهاب، ورسمه محمود سعيد في لوحات بديعة، هذه الروح الفنية تظل حاضرة في احتفالات وفاء النيل، حيث يلتقي الفنانون ليعيدوا رسم صورة النهر في قلوب الناس. كوكب الشرق أم كلثوم هي صاحبة النصيب الأكبر في الغناء لنهر النيل، حيث قدمت عددا من أجمل أغانيها عنه، الأولى باسم "النيل"، وهى من كلمات أمير الشعراء أحمد شوقى، والحان رياض السنباطى، والثانية باسم "سلاما شباب النيل"، هى من كلمات الشاعر إبراهيم ناجى والحان رياض السنباطى." وشمس الأصيل" وتغني العندليب الأسمر في حب النيل في أغنية من أشهر أغانيه بعنوان "يا حلو يا أسمر"، وهى من كلمات الشاعر سمير محجوب ومن الحان محمد الموجى. وقدم موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب أغنية بعنوان "النيل نجاشي"، وهى من ألحانه ومن كلمات أمير الشعراء أحمد شوقى، وأذيعت في فيلم الوردة البيضاء.والنهر الخالد( يا واهب الخلد للزمان... يا ساقي الحب والأغاني) وامتى الزمان يسمح يا جميل واسهر معاك على شط النيل وغنت الفنانة شادية "علي شط النيل تحلي المواويل"، من ألحان محمد الموجي، وكلمات علي الباز. و تغني في فيلم "بشرة خير" أغنية "يا نيل" من كلمات جليل البنداري وحسن أبوزيد وتقول كلماتها : يا جاي من السودان لحد عندنا... بالتمر من أسوان والقلة من هنا... يا نعمة م السودان بعتها ربنا... ومن عمر الزمان وأنت عندنا. وغنت عفاف راضي من كلمات عبد الرحيم منصور وألحان بليغ حمدي، بعنوان "عطاشي". وقدم الفنان محمد قنديل أغنية بعنوان "يا مهون" وهي من أشهر أغانيه، من كلمات مرسي جميل عزيز، وألحان محمد الموجي. لم يقتصر الغناء لنهر النيل علي نجوم زمن الجميل، حيث قدم محمد منير أغنية بعنوان "النيل"، في فيلم "البحث عن توت عنخ آمون"، من كلمات كوثر مصطفى، وألحان وتوزيع أبوذكري.كما قدمت الفنانة شيرين عبد الوهاب أغنيتها الشهيرة "مشربتش من نيلها"، والتي تعتبر من أكثر الأغاني انتشارا عن النيل، وهي من كلمات نور عبد الله، ألحان عمرو مصطفي.