في زحام الزمن وتيه الأيام، يأتي عيد الأضحى كنسمة دافئة تهبّ على الروح، فتمسح عنها غبار الغربة، وتهمس في أذن القلب: حان وقت اللقاء، ليس عيد الأضحى مجرد شعيرة تؤدى، بل هو عيد تكتسي فيه الروح بالبهجة، وتلبس فيه القلوب أثواب التسامح، وتُفتح فيه أبواب البيوت على اتساعها لاستقبال الأحبة، وكأن الزمان قرر أن يمنحنا استراحة حنونة من وجع المسافات وبرود العلاقات. عيد الأضحى هو العيد الذي لا يكتمل دون لمّة العائلة، فالعيد بلا أم تجتهد في إعداد الطعام، ولا أب يُخفي فرحته خلف ملامح الجدية، ولا أطفال يركضون بين الأقدام، كعيد بلا صلاة، بلا تكبيرات، بلا نكهة، هو مناسبة يعيد فيها الأقارب اكتشاف بعضهم البعض، وتُبعث فيها العلاقات من ركام النسيان، وتُصلح فيها الشروخ الخفيفة التي أحدثها الصمت الطويل. في عيد الأضحى تُذبح الأضاحي، لكن تُذبح معها أيضاً الأحقاد، وتُنزف الخلافات، لعل الدم المسفوح يكون رمزاً لرحيل الخصام وولادة الصفاء. تُوزع اللحوم، لكن توزع معها نوايا الخير، وابتسامات الرضا، ودفء العطاء، هو عيد يعلمنا أن الفرح لا يُستهلك، بل يُضاعف عندما يُشارك، وأن السعادة لا تُشترى، بل تُزرع في حقول الودّ والمحبة. وصلة الرحم في هذا العيد ليست واجباً اجتماعياً بقدر ما هي ضرورة إنسانية، طوق نجاة للأرواح التي كادت أن تغرق في دوامة الانشغال، زيارة خالٍ غاب صوته، أو مصافحة عمٍ جفّت العلاقة به، أو حتى اتصال بقريب طال به الغياب، كلها خيوط صغيرة تُنسج بها خيمة الألفة. أما صناعة السعادة، فهي لا تحتاج معملًا ولا أدوات، بل تحتاج نية صافية، وكلمة طيبة، ونظرة حانية، أن تُعدّ كوب شاي لضيفك بمحبة، أن تُهدي طفلًا قطعة حلوى، أن تُشارك جارك في طبق العيد، كل ذلك أبجديات الفرح الحقيقية، فالعيد هو الفرصة المثالية لإعادة ترميم إنسانيتنا، بعد أن أرهقتها صراعات الأيام، وشوّهتها سرعة الحياة. عيد الأضحى عيد المعاني، لا المظاهر، هو اليوم الذي يُعيد تذكيرنا بأننا خلقنا لنكون معًا، لنُسند بعضنا، لنُضحّي لا فقط بالأنعام، بل بالكبرياء أحيانًا، وبالعناد، وبالأنا المفرطة التي تعزلنا عن أقرب الناس إلينا. فلتكن أيام العيد وقودًا لأيام قادمة أجمل، ولتكن الأضحية رمزًا لتقربنا من بعض، لا من طقوس فقط، لأن العيد الحقيقي، ليس في لباس جديد، بل في قلب جديد.