جمعت السيدة الخمسينية بعض الأوراق الخاصة بوالدها الشيخ الأزهرى الذى رحل منذ ثلاثين عاماً، كانت تشعر بالحسرة والحزن فلم يعد أحد يتذكره وهو العالم الكبير الذى تتلمذ على يديه العديد من علماء الأزهر بالمعاهد الأزهرية التي تولى التدريس بها، والذين ترد أسماؤهم في وسائل الإعلام وتستمع إلى بعضهم في إذاعة القرآن الكريم، كانت ترى كيف يسهر والدها ليراجع الكتب الدينية فى ليالى الشتاء الباردة، عاكفاً على تصحيح أوراق تجمع حديث رسول الله حتى في شدة مرضه، وحين تطلب منه أن يستريح قليلاً يرد قائلاً: يا بنيتى إننى أخجل من رسول الله حين أترك حديثه دون مراجعة والمطبعة تنتظر المسودات فى الصباح"، كانت أمنية الابنة أن يتذكر الناس والدها وألا يضيع ذكره وأثره، فحملت أوراقه وذهبت إلى الدكتور محمد رجب بيومى عميد كلية اللغة العربية ورئيس تحرير مجلة الأسبق ليكتب عنه. كانت قصة هذه السيدة التي جاءت من المنصورة للقاهرة لتبحث عمن يتحدث عن والدها الشيخ الجليل أحد دوافع الدكتور أسامة الأزهرى وزير الأوقاف ليعكف لسنوات طويلة قبل توليه الوزارة في محاولة رصد وتأريخ تراجم علماء الأزهر وشيوخه بعد ضياع واندثار سير الكثيرين منهم وانطماس آثارهم وعدم الاهتمام بالتأريخ لهم ورصد جهودهم وما بذلوه من جهد لإحياء علوم الدين وحفظه وما نشروه من علوم وفقه ووسطية، وكان نتاج هذا الجهد البحثى الكبير للأزهرى موسوعة من أهم الموسوعات التي تتحدث عن تاريخ الأزهر الشريف :"جمهرة أعلام الأزهر فى القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين" الصادرة عام 2019 ، تلك الموسوعة الضخمة المكونة من 10 مجلدات والتى تحوى معلومات موثقة استندت إلى آلاف المراجع، لتكون هذه الموسوعة أول قاعدة بيانات وافية عن علماء الأزهر. بحثت كثيراً أثناء إعداد كتابى "أنا الأولى" الصادر عن دار ريشة عن مصادر ومراجع للكتابة عن أوائل السيدات اللاتى درسن بالأزهر، في خضم الحديث عن الأوليات في المجالات المختلفة وأول سيدة فتحت الطريق لبنات جنسها في مجال لم يكن مفتوحاً للنساء قبلها، وكان من الضرورى أن نسأل من هي أول سيدة درست بالأزهر الشريف، ومتى بدأ التحاق النساء به، ومن أول سيدة نالت العالمية أو حاولت نيل هذه المرتبة العلمية الرفيعة في الدراسة الأزهرية؟! فكانت تلك المنطقة شبه مجهولة معتمة تندر المصادر التي تتحدث عنها، فإذا كان التأريخ لعلماء الأزهر من الرجال يشوبه العديد من الصعوبات واندثرت سير الكثيرين منهم فما بالنا بالتأريخ للنساء اللاتى درسن بالأزهر في وقت مبكر وفى ظروف قد ترى أن المرأة عورة وليس صوتها فقط، ولا يستحب فيها أن تذكر سيرتها أو حتى اسمها، فكانت المعلومات نادرة وغير موثقة عن الأسماء القليلة المتواترة دون تعمق فى سيرتهن ومسيرتهن وبقاء عدد كبير منهن فى طى النسيان وعداد المجهولات. بعد بحث طويل اهتديت إلى موسوعة الدكتور أسامة الأزهري: "جمهرة أعلام الأزهر فى القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين"، والتي حاولت الوصول ضمن فيض المعلومات لرصد سيرة وتراجم مشايخ وعلماء الأزهر إلى معلومات عن السيدات اللاتى درسن في الأزهر في وقت مبكر في القرن التاسع عشر، لتكشف الموسوعة بقدر المستطاع وبعد جهد كبير أسماء عدد من هؤلاء السيدات الأوليات بالأزهر واللاتى وصل بعضهن إلى امتحان العالمية عام 1911 أمام نفس اللجنة التي وقف أمامها عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، ومنهن الفاطمات الثلاثة اللاتى وصلن إلى درجة عالية من الفقه والعلم والإلمام بالعلوم، وهن فاطمة الحلفاوية، وفاطمة الغنامة، وفاطمة العوضية، اللاتى درسن في المسجد المحمدى بطنطا نهاية القرن التاسع عشر الميلادى وتفوقن على الرجال، وجلسن أمام لجنة من أصعب اللجان بالأزهر لساعات طويلة وصلت إلى 10 ساعات يجبن على أصعب الأسئلة، ولكن ولأسباب قد يكون لها علاقة بالنظرة للمرأة لم تجيزهن اللجنة كما حدث أيضا مع عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، الذى رسب أمام نفس اللجنة. وألقى الأزهرى في موسوعته الضوء على نساء أخريات تعلمن ودرسن بالأزهر في وقت مبكر، ووصلن إلى درجات متقدمة في العلم والفقه، ليقتحم هذه المنطقة المجهولة من تاريخ النهضة النسائية فى مصر وأزهرها. وتتبع الأزهرى سيرة ومسيرة علماء الأزهر، ولم يكتف بالأزهريين المصريين بل تواصل مع علماء وشيوخ الدول العربية والأفريقية والأسيوية وسائر الدول الإسلامية ليرصد ما يتعلق بتراجم الأزهريين من أبناء بلدانهم، من الصينيين والليبيين، واللبنانيين والفلسطينيين والسودانيين، والأوغنديين والنيجيريين، ومن دول الخليج، والمغاربة والجزائر وكوالالمبور وتايلاند . ولم يكتف الدكتور أسامة الأزهرى بهذا الجهد الكبير ولكنه بذل جهداً فى تمييز المتشابه من أسماء الأزهريين وأنسابهم وألقابهم، ليرفع اللبس ويفرق بين العلماء الذين تتشابه أسماؤهم وألقابهم، مثل الإبيارى والباقورى والأشمونى والخراشى والبحراوى والنحراوى والجيزاوى والحامدى والمرصفى والقصبى والنواوى. وفضلا عن هذا الجهد تمتلئ موسوعة الدكتور أسامة الأزهرى بالاكتشافات والتوثيق والوثائق والمخطوطات الهامة التي يكشف عنها لأول مرة، ومنها ما تضمنته الموسوعة في مجلدها الأول حيث كشفت قصة أول صورة في تاريخ أفريقيا والقطر المصرى، وهى أول صورة فوتوغرافية التقطت لأحد مشايخ الأزهر وهو شيخ الإسلام محمد على الدمهوجى الذى تولى مشيخة الأزهر عام 1830، وذلك عندما استقبله الوالى محمد على باشا فى قصره والتقطت لهما هذه الصورة بصحبة عدد من العلماء، لتكون أول صورة فوتوغرافية يتم التقاطها في القطر المصرى وأفريقيا وأول صورة يظهر فيها أحد مشايخ الأزهر. وهكذا فإن موسوعة "جمهرة أعلام الأزهر فى القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين" تعد من أهم وأغنى وأثرى المراجع، بما تحويه من وثائق واكتشافات وسير وتراجم، فتحية للدكتور أسامة الأزهرى على هذا الجهد الهائل والتوثيق الهام للحفاظ على تاريخ وسيرة الأزهر وعلمائه.