ليست كل المعارك تستحق أن نخوضها، ولا كل الكلمات تُستوجب الرد، كما أن الضجيج ليس دائمًا دليلًا على الأهمية، هناك لحظات في الحياة نحتاج فيها ألا نُجيد الرد بقدر ما نُجيد الصمت، وألا ننتصر بقدر ما ننسحب بعزّة، ألا نُفسر بقدر ما نتجاهل، بتعقل، لا بتغافل. التجاهل في جوهره ليس ضعفًا ولا هروبًا، بل قوة ترتدي قناع الحكمة، هو أن تختار ألا تهدر طاقتك على ما لا يُثمر، ولا ترهن مزاجك لأهواء من لا يعرفون معنى الوقار. أن تُربي في داخلك يقينًا أن السلام الداخلي أثمن من الانتصار في جدال عقيم، وأن الحياة قصيرة جدًا على أن نبددها في مطاردة كل ظل. أحيانًا، تتكالب عليك الأحداث، وتكثر الوجوه، وتضج الألسن بما لا يليق، فتشعر أنك محاصر، لا تعرف من تُصدق، ولا لمن ترد، ولا متى تصمت. هنا، عليك أن تستدعي مهارة التجاهل الذكي، أن تتقن فن العبور دون أن تلتفت، أن تمر كنسيم الصباح، لا يُحاور الصخب، ولا يتوقف أمام نافذة مغلقة. التجاهل الذكي ليس تبلدًا في الشعور، بل رقيٌّ في الرد، هو أن تمتلك القدرة على التحكم في ردة فعلك، أن تختار معركتك بعناية، وتعرف متى تترك الكلمات تتساقط دون أن تمسك بها، تمامًا كما يتساقط الغبار من فوق كتفيك دون أن تشعر بثقله. كم من أوجاع كان يمكن تفاديها لو أننا تجاهلنا! وكم من صداقات لم تنكسر لولا أننا أخذنا كل كلمة على محمل الطعن! وكم من لحظة راحة فُقدت لأننا لم نُدر ظهورنا في الوقت المناسب! في هذا العالم الذي يُعلي من صوت الجدل ويُشيد بمن يردّ الصاع صاعين، يصبح التجاهل الذكي ضربًا من ضروب النُبل، فهو لا يعني أننا لا نتألم، بل أننا قررنا ألّا نحمل الألم معنا إلى الغد، لا يعني أننا لا نُبصر، بل أننا نُدير البصر عن كل ما يُعكر صفو القلب. عود نفسك على أن لا تُوقف خطاك عند كل شوكة، تجاهل بعض الأشخاص، لأن بقاءهم في بالك أثقل مما يستحقون، تجاهل بعض المواقف، لأن التوقف عندها لن يُغيّر شيئًا سوى مزاجك، تجاهل بعض الأقوال، لأن الرد عليها لن يرفع قدرك، بل قد يُنقصه. التجاهل الذكي هو أن تحتفظ بسلامك، أن تُجيد فن الغفلة الانتقائية، أن تمر بأمان من بين الكلمات والأسطر، وتعلم يقينًا أن ليس كل أمر يستحق وقوفك، ولا كل صوت يُستحق سماعه. فامضِ يا صديقي، وانثر التجاهل على الطرقات، فإن بعض الصمت أبلغ من ألف حوار، وبعض الانصراف بداية جديدة لا نهاية.