كان القاضى المعروف محمد النجار، يقيم حفل زفافه فى بيت أسرته العريقة الثرية فى حى الحلمية الجديدة بالقاهرة، الذى كان حى الأثرياء والأسر العريقة والطبقة الراقية فى تلك الفترة، وكان القاضى الشاب من عشاق صوت المطرب عبدالحى حلمى المولود فى عام 1857، والمتوفى عام 1912، وسمع أنه بعد وفاته ترك خليفة له، لا يقل عنه موهبة وحلاوة صوت هو ابن أخته صالح عبدالحى، فبحث عنه ثم اتفق معه على إحياء حفل زفافه، وتألق صالح فى تلك الليلة ليبدأ رحلته الطويلة مع الطرب والغناء الشرقى الأصيل، وكان أجره فى تلك الليلة عشرة جنيهات ذهبية، وصلت بعد فترة قصيرة إلى مائة جنيه ذهبية، وفقا للكاتب الصحفى والمؤرخ والناقد الفنى عبدالنور خليل فى كتابه «المعممون فى ساحة الغناء والطرب». عاش صالح عبدالحى طفولته وصباه معذبا، وتذكر الكاتبة الصحفية إيريس نظمى، فى مقالها «صالح عبدالحى.. الشمعة التى انطفأت فى شارع الفن»، بمجلة «آخر ساعة، يوم 9 مايو 1962»، أنه ولد يوم 16 أغسطس 1891، وكان والده من أعيان بنى سويف، وتزوج بأخت المطرب عبدالحى حلمى، وأنجبت له صالح، ولشدة الخلافات مع زوجها انتقلت للعيش مع أخيها بحى الحنفى بالقاهرة، وفى بيت الخال تربى صالح فى مناخ فنى يستمع فيه إلى الغناء، وتوفى الخال لينتقل صالح مع أمه إلى بيت خاله الكبير عبدالوهاب حلمى، الذى أذاقهما العذاب، لدرجة أنه كان يربط صالح بالحبل ويلقيه فى بئر المنزل حتى يكاد أن يلمس رأسه بالماء ثم يخرجه، وذلك ظنا منه أنه وأمه استوليا على ذهب وماس وبنكنوت شقيقه المرحوم عبدالحى، ولم يكن ذلك صحيحا. أراد صالح أن يستقل عن خاله فانقطع عن المدرسة، وقرر أن يكون مغنيا، فكان يقضى الليل مع المطربين والعازفين ليتعلم منهم، ثم التقى بأشهر عواد هو على الرشيدى الذى أخذه وذهب به ليغنى فى منزل محمد باشا عرقى وزوجته الأميرة زبيدة، وغنى «ياما انت واحشنى» فأعطاه الخديو 50 جنيها ذهبيا، وتضيف «نظمى»، أصبح صالح عبدالحى ملك الطرب، وعندما يغنى فى الأقاليم تعين له الحكومة ضابطا وثلاثة رجال بوليس لنقل زكيبتين من الذهب يوميا من مكان الحفل إلى بنك «الكريدى ليونيه» الذى يضم رصيده، وكان قبل ظهور محمد عبدالوهاب هو المطرب الوحيد المتخصص فى إحياء أفراح العظماء، وكانت الأفراح تضاء بالشموع فى كل نجفة مائة شمعة تجعل الليل نهارا، وأحيا أول فرح أضىء بالكهرباء، وكان العريس هو عبدالله بك الطرزى، وغنى فى تلك الليلة حتى الصباح، وحضر الحفل الزعيم سعد باشا زغلول وحسين رشدى باشا رئيس الحكومة، وتقاضى فى تلك الليلة مائة جنيه ذهب، وتفتحت أمامه بعدها أبواب الحياة، فكان يقوم بخدمته خمسة من الخدم، ويتنقل فى عربة خاصة اشترى خيولها من النمسا، وامتلك ثلاثة إسطبلات للعناية بخيوله وعرباته، وكان يدفع فى تفصيل البدلة ثلاثين جنيها، وكان أول من أدخل التليفون إلى منزله. يذكر عبدالنور خليل: «قفز إلى القمة وكان - ومعه كل الحق - يتعالى على غيره من المطربين والمغنين فقد ظل محافظا على طابعه الشرقى الأصيل، ولم يغن مثل عبداللطيف البنا أغانى خليعة أو بذيئة مثل «إوعى تكلمنى بابا جاى ورايا»، كان يغنى أغانى أصيلة يحتاج أداؤها إلى صوت عريض فحل عذب الجرس يصل الأسماع ليهزها» «كان رمز التقليدية فى الغناء فى القرن العشرين»، بوصف المايسترو سليم سحاب، فى جريدة الخليج الإماراتية، 4 سبتمبر 2015، مؤكدا: «أدت هذه التقليدية بمحمد عبدالوهاب إلى أنه فى زمن طفولته الأولى، يفعل المستحيل لحضور الحفلات الغنائية لصالح عبدالحى ليستمتع فيها بالأدوار والقصائد والموشحات القديمة، وبالأسلوب القديم لغناء هذا التراث فى الحفلات التى كانت تقام فى بيوت الطبقة الميسورة». قوة صوته أوصلته للغناء بدون ميكرفون، بتأكيد زياد عساف فى كتاب «المنسى فى الغناء العربى»، مضيفا: «حافظ على الغناء الشرقى الأصيل، فكان له الفضل بأن تستمع الأجيال المتلاحقة لألحان عبده الحامولى ومحمد عثمان وإبراهيم القبانى وداود حسنى، وبهذا كان حلقة الوصل الأخيرة بين زمنين»، ويؤكد عبدالنور خليل: «كان التمسك بالأصالة سببا فى أن يبعده عن الوسائل المتعددة التى يمكن أن يسلكها للمحافظة على الشهرة والمجد، فقد ابتعد تماما عن السينما ولم يظهر فى التليفزيون إلا ليسجل أغنيته الشهيرة «ليه يا بنفسج بتبهج وانت زهر حزين»، كلمات بيرم التونسى، وتلحين رياض السنباطى، وكانت تلك هى المرة الوحيدة التى غنى فيها على شاشة التليفزيون». يتعجب عبدالنور خليل من نهايته وهو الذى يعد «ألفا الغناء الشرقى والأصالة»، مؤكدا: «أفرط فى كل شىء حتى فى مكاسبه، جلس ذات يوم على تل من الذهب، ورغم هذا مات معدما ولم يخلف وراءه أى ثروة، بل إنه بعد مرضه وتعبه كان يعوزه الكثير من نفقات العلاج».