حين أسلمت جدتى الحبيبة سلمى عبد الستار روحها لبارئها فى لحظة هادئة كأنها صلاة خفية، انكشفت قلوبنا على وجع الفقد، وارتجف الزمن فى أعيننا، لم تكن فقط جدة.. كانت ركنًا من أركان حياتنا، دفئها الذى لا يخبو، وحنانها الذى لا يجارى، ظلا يسكنان تفاصيلنا منذ الطفولة حتى اشتد عودنا وواجهنا الحياة رجالًا ونساء. كانت امرأة لا تنكسر، رغم ما حملته الأيام لها من أعباء، فقدت زوجها وهى شابة، ووجدت نفسها وحدها أمام مسئولية جسيمة، تربية ثمانية من الأبناء (خمسة أولاد وثلاث بنات)، لم تتراجع، لم تتذمر، بل تحولت إلى جبل من الصبر، وواحة من الحنان، حملتهم فى قلبها قبل أن تحملهما يداها، وصنعت من محنتها مدرسة فى الكفاح. رفضت أن تتزوج بعد رحيل شريك عمرها وهى فى عز شبابها، فاختارت أن تكون أمًا فقط، بكل ما تحمله الأمومة من تضحيات ونُبل، كرست حياتها لأبنائها، لا تطلب شيئًا لنفسها سوى أن تراهم بخير، كانت ترى فى رعايتهم رسالتها الكبرى، وفى سعادتهم خلاصها الوحيد من الألم. ومع الزمن، لم تكن فقط الأم، بل صارت الجدة التى تسكن ذاكرة أحفادها، تربينا بجوار أمى، ترعانا بحب نادر وحنان صافٍ، كانت تقرأ وجوهنا كما تقرأ القصائد، وتعرف متى نحتاج إلى حضن، ومتى نحتاج إلى دعوة صادقة تنقذنا من متاعب الحياة. رغم صعوبة الطريق، ظلت نبعًا من الحنان لا ينضب، لم تبخل يومًا بحب أو عطاء، كانت توزع دفئها علينا كما توزع الشمس نورها فى صباح شتوى، تزرع الطمأنينة فى قلوبنا وتروى أرواحنا بكلماتها اللينة وصبرها الجميل. شاهدتها بعينى كيف كانت تسند خالاتى وأخوالى، تسهر على تعبهم، تفرح بنجاحهم، تحتمل أوجاعهم، واليوم، وقد صار كل واحد منهم علامة مضيئة فى طريقه، نعلم جيدًا أن جذور نجاحهم مغروسة فى قلبها هى، فى تعبها، فى دعائها. لم يكن قلبها يتسع لعائلتها فقط، بل كان حبها يفيض لمن حولها جميعًا، كانت تؤمن أن الخير الحقيقى هو ما تزرعه فى قلوب الناس، وقد زرعت فينا جميعًا قيم النبل والعطاء دون أن تنتظر شيئًا بالمقابل. الآن، وقد غابت عن أعيننا، ما زالت حاضرة فى كل ما يحيط بنا، فى التفاصيل الصغيرة، فى الدعوات التى اعتادت أن تهمس بها، فى دفء صوتها، فى عبق طيبتها، تركت إرثًا من الحب لا ينسى، وسيرة عطرة تبقى حية فينا ما حيينا. جدتى سلمى.. رحلتِ، لكنك لم تغادرى، ستظلين النور الذى يهدينا، والحنان الذى يعيننا، والصوت الذى لا يغيب، رحمك الله رحمةً تليق بقلبك الكبير.