لقد امتلأت الأحاديثُ النبويَّةُ الشريفةُ بما يُبيِّن فضلَ قراءةِ سورةِ البقرة، ومن ذلك ما ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إنَّ الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة" [رواه مسلمٌ وغيرُه]، وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: "اقرؤوا القرآن، فإنَّه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزَّهراوَين: البقرة وآل عمران، فإنَّهما يأتيان يوم القيامة كأنَّهما غمامتان أو غيايتان أو كأنَّهما فرقان من طيرٍ صوافّ، تُحاجَّان عن أصحابهما، اقرؤوا سورةَ البقرة، فإنَّ أخذَها بركة، وتركَها حسرة، ولا تستطيعُها البطلة – أي السَّحرة" [رواه مسلم]. وجاء في صحيح ابن حبان والحاكم وغيرهما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ لكل شيءٍ سنامًا، وإنَّ سنامَ القرآنِ سورةُ البقرة، من قرأها في بيته ليلًا لم يدخلِ الشيطانُ بيتَه ثلاثَ ليالٍ" وصححه الحاكم. وإنَّ الناظرَ المتأمِّلَ في موضوعاتِ هذه السورةِ المباركة، يجد أنَّ من أكثر الموضوعات التي تكرَّرت فيها وتنوَّعت آياتها هو موضوعُ الزكاةِ والصدقاتِ والإنفاق؛ فقد استُهلَّت السورةُ بالثناء على المتقين، وعدَّ اللهُ تعالى منهم المنفقين، فقال سبحانه: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾، وهذا الثناء الإلهي يُعدّ بمثابةِ شهادةِ تكريمٍ من الكريمِ جلَّ جلاله للمنفقين، ويتَّضح ذلك في الآيةِ التالية، حيث وصفهم اللهُ بأنَّهم على هدى، وجعلهم من أهلِ الفلاح، فقال: ﴿ أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾. الأمرُ الإلهيُّ بإخراجِ الزكاة: ثم تتابعت بعد ذلك آياتٌ عدَّة تأمرُ بأداء الزكاة، في مواضعَ كثيرةٍ من السورة، قال تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [البقرة: 43]، وقال سبحانه أيضًا: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 110]. وأمرَ سبحانه كذلك بإخراجِ الزكاةِ من المالِ الحلالِ الطيّب، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾. ولم يقتصرِ الأمرُ على أمَّةِ الإسلامِ فحسب، بل بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ الزكاةَ كانت من العباداتِ التي كُلِّف بها بنو إسرائيل، وأُخذ عليهم الميثاقُ بإيتائِها، فقال سبحانه: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ ﴾ [البقرة: 83]. ومن الأمورِ المهمَّة التي ينبغي للمرءِ أن يلتفتَ إليها إن أراد أن يقيسَ نفسَه، أهو من أهلِ البرِّ أم لا، أن يتأمَّلَ آيةَ البرِّ، فإنَّ البرَّ المذكورَ فيها متأتٍّ من الزكاة التي أخرجَها المنفِق، قال تعالى: ﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ ۚ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]. وهي أعمالٌ تدلُّ مجتمعةً على صدقِ هؤلاء العابدين العاملين، كما أنَّ المولى عزَّ وجلَّ ختمها ببيانِ أنَّهم هم المتَّقون. كمثل حبَّةٍ أنبتت سبعَ سنابل: في سورة البقرة، رتَّب الله تعالى أفضلَ الإنفاق على الآخرين بحسب درجة قرابتهم، فقال سبحانه: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 215]، وهذا ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه حيث قال: "يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ: أُمَّكَ وَأَبَاكَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ" رواه النسائي. كما أنَّ الله سبحانه قد وعد بمضاعفة الأجر للمنفقين، لكل أنواع البذل والإنفاق التي تبتغي مرضاة الله تعالى، مثل الزكاة المفروضة، وصدقة التطوع، والإنفاق على الأقارب، فكل ذلك مضاعفٌ في الأجر والثواب، كما قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]. وقد بيَّن الله تعالى أنَّ الزكاة والصدقات لا تُقبل إذا رافقها المنُّ أو الأذى؛ لأن ذلك يؤدي إلى إبطال أجرها، كما قال سبحانه: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 262-263]. فالرد الجميل على السائل بالكلام الطيب أفضل من أن تعطيه مع المن أو الأذى. وفي هذه السورة المباركة، ضرب الله لنا مثلًا عظيمًا عن المخلصين في إخراج الزكاة والصدقات، وصنف البذل والإنفاق الأخرى، فشبَّه هذه النفقات بأنها مثل الجنة التي زرعها صاحبها في تربة طيبة، إذا نزل عليها مطر غزير، تضاعف ثمرها، وإذا نزل عليها مطر خفيف، لم تقطع ثمارها؛ لأنها مثمرة في جميع الأحوال، كذلك المخلصون في نفقاتهم، يجدون أجرهم مضاعفًا بحسب إخلاصهم، كما قال تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 265]. والمعنى هنا أنَّ الإنفاق في سبيل الله له أجرٌ عظيم، وهو متباينٌ بحسب مقدار الإخلاص في ابتغاء مرضاة الله وثبات النفس على هذا العمل الصالح. وفيما يتعلق بالزكاة والصدقات والإنفاق في سورة البقرة، ذكر الله سبحانه وتعالى عدَّة آيات متتالية عن فضل وأجر المنفقين، حيث قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [البقرة: 270]، وهنا، يبيِّن الله تعالى علمه بأعمال المنفقين الجليلة. ثم بيّن سبحانه جواز إظهار إخراج النفقة لمصلحة، مع وجود الإخلاص عند الإظهار، وأن السرَّ في الإنفاق أفضل إذا لم تكن هناك مصلحة في الإعلان، قال تعالى: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 271]. ووضح سبحانه أنَّ إنفاق المنفقين يعود عليهم بالأجر الكبير، فقال تعالى: ﴿ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 272]. وفي ختام الحديث عن الزكاة والصدقات والإنفاق في سورة البقرة، بيّن الله سبحانه وتعالى بعض مستحقي الزكاة والصدقة، مثل الفقراء الذين لا يستطيعون العمل في الأرض، والذين يبدو عليهم من تعففهم أنهم أغنياء، فقال تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 273]. ويؤكد الله تعالى أن ما يقوم به المنفقون لن يضيع، وأن الله عليم بما يفعلون، ثم ختمت آيات الإنفاق بوعد جميل من الله سبحانه وتعالى للمنفقين، فقال: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 274]. وهكذا، يظهر لنا تكرار ذكر الزكاة والصدقة والإنفاق في سورة البقرة، لمكانتها العالية، وأهميتِها في دين الله تعالى، فهي الركن الثالث من أركان الدين، وصدق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حين