أتخيل أن من يقرأ عنوان هذا المقال، يتعجب من تركيبته التي تبدو للوهلة الاولي، غير مفهومة و ربما غامضة ثم يتسائل تلقائيا عن ماهية العلاقة التي تربط الملكة "حتشبسوت" ب"المعارف العمومية" و"الإرشاد القومي"؟ ويندهش كيف لي ان أُقدِم علي الرَبط بين إسم ملكة من التاريخ الفرعوني مع إسم نظارة "المعارف العمومية" (الشكل القديم لوزارة التربية و التعليم) و التي أسسها "علي مبارك" وقادها في يوم من الأيام عميد الادب العربي "طه حسين" مع "الإرشاد القومي" الذي هو مسمي أول حقيبة تُعني بالشأن الثقافي في مصر و تعتبر الأقدم في القارة الافريقية و أيضا في العالم العربي. لذا فانني سأُسرِع بطمأنة القارئ و إلقاء الضوء بشكل مباشر علي هذا الرباط الذي رأيته جليا بحكم تخصصي في التاريخ و الحضارة - فتحسسته و هو ملتفا حول العناصر الثلاثة للعنوان، تماما مثل الشريط الملون الملتف حول خصلات الشعر الثلاثة المجدولة باعتناء و إحكام.. فهي يا ساده ضفيرة الزمن .. الضفيرة الابدية لمصر البهية! في الحقيقة، رغم اختلاف قوام تلك العناصر الثلاث (اسم ملكة - اسم نظارة - اسم حقيبة وزارية) الا ان القاسم المشترك بينهم يكمُن في كونهم "نقاط تغيير مسار" في الحضارة المصرية، و طاقات من النور و الابداع، أثرت التاريخ المصري بنسائم الابتكار و رياح حفزت علي الإقدام لخرق الدوائر التقليدية المنغلقة و ذوابع جلبت الاختلاف و نور أضاء الدنيا لكشف المجهول و بعث الامل في التغلب علي الخوف و ظلماته. عزيزي القارئ، بِقَدر ما كان فيلم "غرام في الكرنك" و الذي كان أول فيلم مصري ملون يتم تحميضه داخل مصر عام 1967 ،سباقا في غرس صورة مبهجة لمدينة الأقصر في اعماق وجداننا من خلال الاغاني الرقصات المرحة، التي طالما رددناها في رحلاتنا المدرسية و تغنينا بكلماتها "الأقصر بلدنا بلد سواح، فيها الاجانب تتفسح " و من خلال اللقطات الشبابية المليئة بالحيوية التي بقيت امام اعيننا و كذلك الدقات التي مازالت ترِن في اذننا للإيقاع المنضبط لرقصات فريدة فهمي وعلي رضا وفرقتهم في رحاب معابد طيبة القديمة وأخيرا و ليس آخرا، خطوات محمد العز بي و هو يتماهي مع ايقاع الحنتور الشعبي المزين بالخرز و الأحجار الملونة.. ما اروع تلك المشاهد "التراثية" التي تزخر بها السينما المصرية! لا شك ان هذا الفيلم قد ثَمَن القيمة التاريخية لمدينة الأقصر و عززها ومجد مواقعها الاثرية المتفردة في سياق درامي بديع و لكنه و بدون قصد، أصاب في مقتل صورة الملكة "حتشبسوت" اعظم ملكات مصر القديمة التي ساقتها كلمات احد أغاني الفيلم داخل " تابوت" بل و رسمت لها صورة "سيدة عجوز" مر من داخل عمرها، السنوات بغير عدد.. حتشبسوت ياااا حتشبسوت قفلو عليكى يا حلوه تابوت آه يا حياتى يا مولاتى و تمادت السينما المصرية في نشر هذا البروفايل الكاريكاتيري لشخصية الملكة وتزايدت "الايفيهات"التهكمية من فيلم لاخر حتي ارتبط اسم "حتشبسوت" - في الذاكرة الجمعية المصرية - بالماضي السحيق بل و اضحي كناية عن السيدة التي ينقصها الجمال و فاتها قطار العمر! غريب هو حالك يا دنيا! أغنيتين من فيلم واحد، احداهما أضافت عمراً و اضفت رونقًا لمدينة الأقصر و الأخرى، قصفت عمراً و سلبت نضارة بل و كبلت بقيود سنوات العمر " حتشبسوت" وطوت بعفوية لا إرادية امجاد ملكة الزمان المعروفة بقوة الذات و الأداء.. تلك الملكة المتوجة ذات العقل الراشد و القلب المرهف.. تلك السيدة المصرية التي أضافت الكثير من تعابير الجمال الي وطنها.. كم كنت اتمني ان يُفيض المُعَلِم في حصة التاريخ، بحدوتة مصرية لهذه الملكة العظيمة " حتشبسوت"، صانعة التاريخ، كم كنت اصبو أن يتناول المُعَلِم بفخر و احترام مسيرة هذه السيدة القوية التي جلست على عرش مصر و تلقبت بال "فرعون" و حكمت بحنكة و دهاء و تحلت بوسامة الفكر وأناقة الطرح وشغف التميز وإجادة فنون الإدارة بالإرادة القوية والرؤية المنفتحة على الآخر.. مرجعية عالمية للانوثة الذكية و القيادة السياسية السباقة لعصرها، و التمرس في كيفية التعامل مع محيطها الجغرافي، فأرسلت البعثات إلى أعالي النيل و البحر الأحمر و اقامت تبادل تجاري ذكي علي طريق الحرير القديم، ثم اليمن السعيد وشبه الجزيرة العربية و عرفت أيضا كيف تتعامل مع البيئة و المناخ بما انها عاشقة للطبيعة من حولها و مبجلة لماخلق الله بين الأرض والسماء و مدركة لأهمية مصادر الثروة النباتية و الحيوانية و ضرورة تعظيم الاستثمار فيها.. سيدة قوية عرفت كيف تدير البلاد شرقا وغربا وشمالا وجنوبا فأوقفت الحروب والنزاعات و اعلت لغة التواصل مع جيرانها من خلال التبادل التجاري كما وظفت قوتها البشرية في التشييد والبناء والإبداع في مختلف الفنون. اما عن العشق و الهوي.. فقصة حبها هي مصدر الهام لكثير من السيدات حتي يومنا هذا وستظل خالدة بين اسطر الوثائق و رسومات المعابد، فبعد وفاة زوجها تحتمس الثاني، تحملت المسؤولية السياسية كاملة و انغمست في أمور الادارة بمعاونة أحد أكبر الشخصيات المثقفة في بلاطها، الفيلسوف "سننموت"، الذي تقلد اعلي المناصب وفاز بأرفع الأوسمة، فكان سندا لها في تنشئة ابنتها وإدارة القصر الملكي و شاركها في رسم ملامح سياساتها الداخلية و كذلك الاشراف علي تشييد معابدها في الوادي و الدلتا، و لعل درة تاج عصرها هو "معبد حتشبسوت" في منطقة الدير البحري بالبر الغربي للنيل في مدينة طيبة القديمة، الذي اهداه لها، حتشبسوت سيدة البلاد وسيدة قلبه ، فتجلي "سننموت" في ابداعاته الفنية و جاء بتصميم يليق ب "حب ملايين السنين" يتألق كأجمل دور العبادة في العوالم القديمة و يتحدي الزمن بل و الحداثة قبل اوانها بما ان خطوطه الانشائية و زخارفه و اعمدته تُدَرس في مناهج العمارة بكل الدول المتقدمة حتي يومنا هذا! مسيرة عالمية بمقاييس الامس و اليوم و غدا.. و بما ان السيرة أطول من المسيرة.. ففي ثلاثينيات القرن الماضي، اتت "حدوتة حتشبسوت" ك فاتحة لدروس التاريخ و مدعاه للفخر في حصة التاريخ من خلال "نظارة المعارف العمومية" والتي تولي قيادتها، العظيم الدكتور "طه حسين"، هذا الرجل المستنير الذيي آمن بأهمية تدريس التاريخ وتناول مواضيعه الشيقة بشكل ذكي و حديث، يربط بين الماضي والحاضر و يؤهل الطالب لتلقي هذه المعلومات بسهولة و طبيعية، والاستفادة منها في صقل عقله بالدروس و الخبرات و من ثم القفز من عِلية معارفها نحو مستقبل أفضل. وفي كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" والذي طبع عام 1938، وضح "طه حسين" قائد منظومة "المعارف العمومية" حتمية تغيير طرق تناول مادة "التاريخ" فيي المناهج التاسيسية بما يسمح بتعظيم الدروس المستفادة من الماضي خاصة بالنسبة للدول ذات الحضارات القديمة. عود علي بدء، فمثل ما ساقنا فيلم "غرام في الكرنك" لعشق مدينة الاقصر و لكن أيضا - و بشكل غير مقصود -لاغلاق "حتشبسوت" داخل التابوت، كان عام 1956 أيضا علي نفس شاكلة الفيلم: ابرز في اذهاننا حدث الحرب التي شنها بالعدوان الثلاثي علي مصر و تدمير مدن القناة ، و ساق الي الصفوف الخلفية و أيضا بشكل غير مقصود حدث إنشاء حقيبة خاصة وزارة لادارة الشؤون الثقافية.. نعم! انشات مصر وزارة لادارة الشؤون الثقافية عام 1956و اعطتها مسمي "الارشاد القومي" استباقا حتي لدولة فرنسا قلعة الثقافة في العالم اي قبل ان يصدر الرئيس "شارل دي جول" قراره بخلق حقيبة وزارية عام 1959 لادارة المنظومة الثقافية الفرنسية، اي بعد ثلاث سنوات من قرار ناصر. و استلهاما من ابيات شعر نزار قباني في قصيدته " ستّ الدنيا يا بيروت "، استطيع ان اقول"ان "الثقافة" تولد من رحم الاحزان"، و ان عام 1956لخير تجسيد لهذه المقولة، حيث جاء قرار جمال عبد الناصر - عقب العدوان الثلاثي بإنشاء حقيبة للثقافة و المعارف و الارشاد القومي علي ان يكون هدفها الجوهري هو نشر الوعي و ادراك ريادة مصر في احترام ثقافتها وتقدير حضارتها وصون تاريخها و كذلك إعلاء إرادة الإدارة الذكية لهذه المنظومة الثقافية الحضارية التراثية بشكل منظم ومنضبط كي يستطع نور الشمس علي حاضر الوطن دون ان يلقي بالظلال عل قمر التاريخ المتوهج كالبدر. و أخيرا.. فلنحافظ علي سيرة "حتشبسوت" و لنعتني بمسيرتها و نثمنها كتجربة رائدة للسيدات حول العالم و لنحترم معبدها الذي يعتبر احد المرجعيات الدولية في فن العمارة، و لنمجد واحدة من اجمل قصص العشق و الهوي في التاريخ و لنصونه و نحافظ عليه من صخب الحفلات التي تنتهك قدسيته و تلوث فضاءه بمخلفات اللذين يلهون "بغير عِلم" في رحابه و اللذين يؤمنون "بغير ضمير" بثقافة المال.. ياسادة.. معبد "حتشبسوت" ليس بخلفية لديكور الحفلات و لا حجر أصم ..لا يري من يعبث به و لا يسمع من يتعدي علي قدسيته و لا يُدرك ما الحقه به أولاده من عبث! فلنضع الثقافة المصرية فى صدارة المشهد بما تستحق وبالمكانة التي تليق بحجم حضارتنا و لنجعل إستراتيجيتنا هي "قبول الرأى الآخر، والاستفادة من النقد البناء" و لنعلي لواء"الثقافة هي يدٌ تصافح و فكرٌ يقبل الآخر"!