اليوم تحل الذكرى التاسعة عشرة لرحيل أبى، وكأن الزمن توقف فى تلك اللحظة، وكأن روحه لم تفارق عالمى لحظة واحدة. كلما مر يوم، أزداد يقينًا بأن بعض الغياب لا يُعوّض، وأن هناك أشخاصًا يتركون فينا أثرًا لا تمحوه الأيام، بل يزداد عمقًا مع مرور الزمن. كان أبى رجلاً نادرًا، لم يكن مجرد أب، بل كان مدرسة فى الأخلاق والمروءة، وسندًا لا يميل، وقلبًا ممتلئًا بحب أبنائه. أتذكر تفاصيله كأنها حدثت بالأمس، ضحكته التى كانت تملأ البيت دفئًا، صوته القوى حين كان يوجّهنا بحكمة، نظراته التى تحمل معانى لا تحتاج إلى كلمات، يده الحانية التى كانت تمتد لتمسح عنى التعب، وكلماته التى كانت تمثل لى بوصلة ترشدنى فى دروب الحياة. علمنى أبى أن الرجولة مواقف، وأن الأمانة ليست خيارًا، بل أسلوب حياة، وأن العدل أساس كل شىء. كان نموذجًا للصبر والاجتهاد، لم يعرف الكسل طريقًا إليه، ولم يستسلم يومًا لعثرات الحياة. كل نجاح حققته كان له فيه نصيب، فهو من زرع فى داخلى الإصرار، وهو من علّمنى كيف أقف بعد كل سقوط، وكيف أواجه الدنيا بكرامة وكبرياء. أشتاق إليه فى كل تفاصيل يومى، فى لحظات ضعفى حين كنت ألجأ إليه فأجد منه السند، فى أوقاتى الصعبة حين كنت أسمع منه الكلمات التى تهدئ روحى، فى فرحى حين كنت أرى السعادة فى عينيه قبل أن أراها فى عينى. غاب الجسد، لكن روحه لا تزال معى فى كل قرار أتخذه، فى كل موقف أحتاج فيه إلى حكمته، فى كل مرة أرفع فيها يدى إلى السماء فأدعو له بكل ما أملك من حب وامتنان. اللهم ارحم أبى بقدر ما غمرنى بحبه، واغفر له بقدر ما زرع فى قلبى من خير، وأنِر قبره واجعله روضة من رياض الجنة، وبلّغه من الرحمة والرضا ما يُنسيه تعب الدنيا. اللهم اجمعنى به فى مستقر رحمتك، واجعل كل دعوة صادقة له نورًا يضىء قبره وسعادة تملأ روحه فى عليين.