وصلت سيدة الغناء العربى أم كلثوم إلى السودان يوم 25 ديسمبر 1968، وقضت فيه تسعة أيام انتهت فى 2 يناير 1969، قدمت خلالها حفلتين فى «أم درمان»و«الخرطوم» ضمن مشروعها لدعم المجهود الحربى والذى بدأته بعد هزيمة 5 يونيو 1967، وكانت «الخرطوم طيلة هذه الفترة مثل العروس ليلة الفرح»، بوصف الكاتب الناقد رجاء النقاش الذى رافقها فى هذه الزيارة. كان «النقاش» رئيسا لتحرير مجلة «الكواكب»، وشاهدا على الزيارة، وأجرى حوارا موسعا مع الرجل الذى وقف وراء الحدث وهو «عبدالماجد أبو حسبو» وزير الإعلام السودانى، ويصفه «النقاش» قائلا: «كان مثقفا وشاعرا مبدعا، ودخل السجن بعد انقلاب جعفر نميرى سنة 1969، وتوفى فى ظروف صعبة». نشرت «الكواكب» الحوار فى عددها 912، يوم 21 يناير، مثل هذا اليوم، 1969، وكشف فيه «أبو حسبو» أن قصته قديمة مع أم كلثوم، وأنها «حبه الأول فى الحياة الفنية»، ويقول: «كنت طالبا بمدرسة حلوان الثانوية سنة 1938، وفى يوم من الأيام خرجنا فى مظاهرة لمناسبة لا أذكرها، وكانت المظاهرات تملأ القاهرة ضد الاستعمار، وحكومة الأقليات التى تتعاون مع الإنجليز أو مع السراى، وفى هذا اليوم الذى أذكره جيدا خرجت فى المظاهرة، وجئنا إلى القاهرة، وذهبت أنا وبعض أصدقائى إلى مقهى بميدان السيدة زينب». يضيف: «كنا أربعة أصدقاء، اثنين من «الصعايدة»، واثنين من السودانيين أنا واحد منهم، واخترنا «طرابيزة» وأخذنا نلعب الطاولة، وكانت أم كلثوم تغنى، وكل من فى المقهى ينصت للراديو، ولم نكن نحن ندرى أنها ستغنى، وحتى لو كنا ندرى لما اهتممنا لأننا لم نكن نعرف شيئا واضحا عنها، وبدأنا نلعب ونحن نتكلم، وأول واحد منا رمى بزهر الطاولة وأحدث صوتا واضحا، وفجأة هجم علينا ستة أو سبعة من رواد المقهى الذين يستمعون إلى أم كلثوم، وواحد منهم أخذ الطاولة وقذف بها فى الشارع، وواحد قذفنى بشتائم لا أول لها ولا آخر». يذكر «أبو حسبو»، أنهم غادروا المقهى، وضحكوا على هذه الحادثة الغريبة والمثيرة، والتى فتحت عنده باب البحث عن سرها، فبدأ الاستماع لأم كلثوم فى الإذاعة وتصادف فى اليوم التالى أنه استيقظ على صوتها تغنى قصيدة يذكر منها بيتا واحدا هو «وكلانا ساهر يرقب الصبحا/ وكلانا طائر يحمل الجرحا»، ويؤكد أن أم كلثوم لم تتذكر هذه القصيدة حين تعرف عليها وسألها عنها، وقالت إنها نسيت كثيرا من أغانيها وبعضها ضائع تماما. يؤكد «أبو حسبو»، أنه تعلق بأم كلثوم إلى أبعد حدود، ويقول: «كان من عاداتى أن أذهب مع بعض زملائى إلى بيتها ونقف أمامه لعلنا نراها وهى فى طريقها إلى الخارج»، ويكشف أن وهو طالب بكلية الحقوق فى مصر تزوج من زوجته المصرية، وكانت متعلقة بها أكثر منه، وكانا يشتريان كل أسطواناتها، وحلم بأن يراها فى السودان، وكان القدر يدخره هو لهذه المهمة، بعد أن تولى وزارة الإعلام. ويذكر: «عندما جئت وزيرا للإعلام كان أول شىء فكرت فيه هو أن أقنع أم كلثوم بالحضور إلى السودان، وكنت أشعر بأننى أقوم بمغامرة كبيرة، فالسودانيون لم يتعودوا على الاستماع للأغنية الطويلة، ومشهورون بحبهم للأغانى المصرية الخفيفة السريعة، وكان الجميع يتهمون الشعب السودانى بأنه متزمت وملول». يكشف: «كان أقرب الناس يظن أننى أقوم بمغامرة قد لا تحمد عواقبها، وبالرغم من ذلك تحملت المسؤولية إيمانا منى بأن الشعب السودانى ذوقه رفيع»، ويضيف: «أرسلت خطابا حمله السفير عثمان الحضرى سفير السودان فى مصر إليها»، وأكد الخطاب رغبة السودان حكومة وشعبا فى زيارتها، ويذكر «أبو حسبو» أنه بعد ذلك زارها للتأكيد على دعوتها، فأخبرته أنها تأثرت جدا بخطابه، كما تأثرت بموقف الشعب السودانى أثناء نكسة 5 يونيو 1967، وأنها كانت تتمثل ببيت الشعر: «جزى الله الشدائد كل خير عرفت به عدوى من صديقى». كسب «أبو حسبو» رهانه، ويقول: «أثبتت أم كلثوم أن الشعب السودانى ليس متزمتا ولا ملولا ولكنه لم يجد من يحرك فيه عواطفه الحقيقية، ولم يجد الفنان الذى يهز وجدانه كما فعلت أم كلثوم، واستجابة الشعب السودانى لها تشبه إلى حد بعيد استجابة الشعب المصرى لها، فقد لاحظت فى الحفلتين أن المقاطع التى كان يهتز لها الجمهور فى مصر هى نفسها التى كان الشعب السودانى يصفق لها ويهتز معها». يسجل «أبو حسبو» بعض ما لاحظه على السودانيين فى الحفلتين، قائلا: «لاحظت مثلا بعض الشيوخ الذين يتسمون بالرزانة والتعقل وهم يخرجون تماما عن طبيعتهم فيصرخون ويهللون، وتبدو عليهم سعادة غامرة كأنهم عادوا عشرات السنين إلى الوراء، ولاحظت أيضا أن الملل الذى كنت وغيرى يتهم به الشعب السودانى ليس له وجود، وكنت أشعر عندما تنتهى الوصلة الغنائية فى أكثر من ساعة أن الوقت ليس الذى مر دقائق معدودات أو ثوانى قليلة».