تبدو منطقة الشرق الأوسط، المثال الأبرز على انتهاك مبدأ السيادة الوطنية للدول في المرحلة الراهنة، مع الاعتداءات الإسرائيلية المتواترة على دول المنطقة منذ أكثر من عام مضى، بدءً من قطاع غزة، مرورا بلبنان وسوريا، وحتى اليمن، في ظل حالة من الصمت الدولي، تعكس ازدواجية فاضحة للقوى الكبرى القائمة بالفعل، بينما تنم عن ترهل المنظومة الدولية بصورتها الحالية، سواء في إطار حالتها الأحادية، أو من حيث الإطار الأممي الجمعي، والتي أثبتت عجز الأممالمتحدة عن اتخاذ قرار من شأنه إجبار إسرائيل على وقف إطلاق النار، مع الاستخدام المتكرر ل"الفيتو"، من قبل حليفها الأمريكي، وهو ما أثار الكثير من الجدل، بينما أحيا العديد من الانتقادات القديمة لتشكيل مجلس الأمن واقتصار الفيتو على حفنة من الدول، التي تمثل في معظمها "طبقة" دولية بعينها. ولكن بعيدا عن الشرق الأوسط، والحروب المتواترة التي يشهدها، وتمثل في جزء كبير منها انتهاكا للبعد الأمني للسيادة يبقى المفهوم برمته في خطر حقيقي، على المستوى العالمي، وهو ما بدا في العديد من الإرهاصات، منها على سبيل المثال حديث الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، عن إمكانية ضم كندا لتصبح الولاية ال51 بالولايات المتحدة، ثم السيطرة على قناة بنما، وهي الأحاديث التي تعود في الأساس إلى أسباب اقتصادية بحتة، فالأولي تعتمد في اقتصادها بصورة كبيرة على المزايا التجارية التي تمنحها لها واشنطن، وهو ما لا يقبله الرئيس العائد إلى البيت الأبيض، وبالتالي فهو يريد مقابل، والمقابل يبدو صعبا، وهو أن تتناول أوتاوا عن سيادتها واستقلالها، لتصبح ولاية أمريكية، بينما الحالة الثانية، تأتي في إطار خلاف يحمل في طياته حرب أخرى مع الصين. سياسات الضم، والتي أعلن عنها ترامب، في إطار أحاديث، تبدو لدى البعض عابرة، تمثل انعكاسا صريحا لحالة من التغيير التي قد يشهدها مفهوم السيادة الوطنية، والذي طالما طرأت عليه العديد من التغييرات، خلال حقب تاريخية معينة، ليس فقط في الإطار الاستعماري، والذي سيطرت فيه قوى كبرى على دول أصغر منها، وانتزعت عنها السيادة، وإنما في واقع الأمر فيما يتعلق بالعلاقة القوى المتحالفة. فلو نظرنا إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، نجد أن دول الحلفاء تنازلت بمحض إرادتها عن جزء من سيادتها، والمرتبط في الأساس بصناعة القرار الدولي، لصالح الدوران في فلك أمريكا، بينما اتجهت أوروبا الغربية، في أعقاب الحرب الباردة، نحو بناء كيان جامع، يتجاوز في صلاحياته حدود الدول، لتذوب سيادتها في الاتحاد الأوروبي، الذي أصبح صاحب القرار، بينما تدور قراراته في إطار رغبات واشنطن، باعتبارها القوى المهيمنة على عالم أحادي، جراء انهيار الاتحاد السوفيتي، في بداية التسعينات من القرن الماضي. ولعل الحديث عن سيادة الدولة، في الجانب الأوروبي من دول المعسكر الغربي، مقسمة في واقع الأمر بين 3 كيانات، متوازية، أولها ما يخص الدولة الوطنية، والتي تآكلت، لصالح الاتحاد القاري من جانب ثاني، والذي يخضع في مسار ثالث للقيادة الأمريكية، وهو ما يعني أن تراجع السيادة ومفاهيمها، ليس بالأمر الجديد تماما في تاريخ المجتمع الدولي، وإنما مر بالعديد من المراحل، خلال عقود طويلة من الزمن. إلا أن التآكل في مفهوم السيادة الوطنية، في واقع الأمر توارى خلال عقود طويلة، خلف حالة أشمل من الاستقرار الإقليمي، في دول الغرب، جراء أوضاع ميدانية مستقرة، في ضوء الابتعاد الجغرافي عن مناطق الصراع، من جانب، بينما كانت المزايا التجارية والاقتصادية التي طالما أنعمت بها واشنطن على حلفائها، سببا رئيسيا في الاستقرار الاقتصادي، والذي ساهم بصورة كبيرة في اختفاء، أو بالأحرى إخفاء، السيادة المتآكلة بينما يأتي حديث ترامب، حول ضم كندا، والتي تعد حليفا تاريخيا للولايات المتحدة، بمثابة مرحلة جديدة، تمثل انعكاسا صريحا، ليس فقط لحالة انعدام قدرة أمريكا على تحمل حلفائها اقتصاديا، وإنما أيضا كانت كاشفة لهشاشة الحلفاء، وعجزهم عن حماية السيادة الوطنية لصالح قوى أكبر، مما ساهم بصورة كبيرة في إضعافهم إلى الحد الذي لم تستطيع معه تلك الدول مجابهة أحاديث عن إمكانية ضمهم، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن غياب البديل عن الدعم الأمريكي، مع الاعتماد المطلق على حليف واحد يمثل ضياعا للسيادة الوطنية. وهنا يمكننا القول بأن مفهوم السيادة بات مرتبطا إلى حد كبير بقدرة الدول على حماية نفسها أمنيا، وهو ما يبدو في المشهد الإقليمي، والذي عكس بجلاء حاجة الدول إلى تعزيز قدراتها لمجابهة التهديدات المحيطة بها، بينما يبقى في جانب آخر مرتبطا بقدرتها على بناء نفسها، بحيث لا تبقى في حاجة إلى الاعتماد على حليف يقدم المزايا والمنح، خاصة وأن التجربة أثبتت أنها ستبقى محدودة المدة، حتى وإن طال أمدها الزمني، وهو ما يعكس أهمية تدشين الشراكات، القائمة على المصالح المشتركة.