صمت البارود، ولأول مرة يعانق الأذان فى مسجد رفح المصرية الأذان فى مساجد رفح الفلسطينية، وبات الشباب يلملمون بقايا الحطام وتحولت شظايا الصواريخ الإسرائيلية، التى اشترتها مؤخراً من أمريكا إلى لعب فى أيدى الصغار الذين عاشوا أياما من الخوف والحبس تحت بقايا المنازل. 5 صواريخ إسرائيلية قيمتها 2 مليون و500 ألف جنيه سقطت على رفح المصرية قرب مناطق سكنية دون أن تنفجر، مما أثار عديداً من التساؤلات حول عدم انفجارها، ورغم ذلك غادرت عشرات الأسر منازلها قرب موقع سقوط الصواريخ خوفاً من انفجارها، فى حين فرضت أجهزة الأمن طوقا أمنياً قرب موقع الصواريخ لعدم العبث بها. مصدر أمنى قال لليوم السابع إن الصواريخ الإسرائيلية التى تقصفها طائرات إف 16 الإسرائيلية من الصواريخ الموجهة التى يتحكم الطيار فى انفجارها وفق برامج قتالية فى الطائرات، وقال الصاروخ الذى يبعد عن هدفه لا يفجره الطيار، وهو ما حدث مع الصواريخ التى سقطت على رفح المصرية، وقال إن خبراء المفرقعات والدفاع المدنى المصرى يتوجهون للصواريخ ويتم تفجيرها بطريقة معينة حتى لا تظل مصدر تهديد للمنطقة، وسبق تفجير صاروخ آخر سقط على رفح المصرية. صمت رسمى مدينة رفح المصرية باتت فى مرمى الصواريخ الإسرائيلية فى ظل صمت مصرى رسمى، حتى أننا لم نسمع أو نشاهد مسئولاً مصرياً يوجه رسالة شديدة اللهجة لإسرائيل لمنع تكرار ذلك على حد قول عدد من السكان برفح. صمت الحكومة أصاب المصريين بسيناء عموماً بحالة من الغضب الشديد والحزن بسبب تساهل مصر فى حماية سماء رفح وحماية المواطنين فيها، مما دفع عشرات الأسر للرحيل الإجبارى خوفاً على حياتهم بعدما تعرضت المدارس وبنك مصر، الذى تحطم وتم تحويل أمواله ومتعلقاته إلى فرع البنك بالشيخ زويد، كما تعرضت البيوت لشظايا القصف الإسرائيلى، مما أدى لارتفاع أسعار العقارات فى العريش بعدما أقبل العشرات على طلب شراء وحدات سكنية بعيدة عن الحدود. مواطن رفض ذكر اسمه قال، إن الوضع عاجب الحكومة علشان إخلاء المنازل الحدودية، وشكك فى دفع الحكومة لتعويضات للأهالى لترميم بيوتهم. وكانت اللجنة الشعبية لحقوق المواطن بشمال سيناء طالبت أمس الأحد، بأن تحمى مصر رفح والمناطق الحدودية من القصف الإسرائيلى العنيف، وقال أشرف الحفنى أمين حزب التجمع بسيناء، إن عدو غزة عدونا ونصر غزة نصرنا مضيفاً، غزة تضرب عسكرياً وسياسياً، فالآلة العسكرية تقتل الحاضر والألاعيب السياسية تريد قتل مستقبل غزة لدرجة أن الكثيرين من الحكام العرب يفضلون قمة اقتصادية أى قمة البيزنس عن قمة تحمى الشعوب من عدونا المشترك، وطالب الحفنى بقطع الغاز المصرى فوراً عن إسرائيل وبأى طريقة وقطع العلاقات مع الكيان الصهيونى فوراً، ووجه الحفنى رسالة للحكومة، إن لم تستطع حماية الحدود المصرية وأهالى رفح المصرية من صواريخ إسرائيل فسنحميها نحن بصدورنا وبكل الطرق الأخرى. غزة بين الأمس واليوم 358 يوماً فقط فصلت بين زيارتى الأولى لقطاع غزة ضمن فريق اليوم السابع وبين دخولى لمدة وجيزة إلى أطراف القطاع من بوابة معبر رفح على الجانب الفلسطينى خلال إدخال المساعدات الدوائية، 358 يوماً تغيرت فيها غزة من رائحة اللوز والبرتقال والزيتون إلى رائحة البارود والقنابل الفسفورية والجثث المتحللة بين أنقاض العمارات، نظرة فاحصة كفيلة لمن يعرف غزة أن يميز بين ما كانت عليه أمس واليوم. فى 24 يناير 2008 كان الموعد الأول مع غزة بصحبة الزميلين شعبان هدية وعصام الشامى، كان يمثل اليوم الثانى لاقتحام الغزاويين للحدود المصرية قرب بوابة صلاح الدين ومن فتحات أخرى بالجدار الحدودى، وقتها سرنا لمسافة أكثر من 10 كيلو مترات من رفح المصرية إلى قطاع غزة، ورغم الحصار كانت غزة جميلة تعانقها أغصان الزيتون ومن بعيد تلوح أشجار التفاح والبرتقال واللوز، والمطر كان مصراً على تحيتنا، حيث يهطل بغزارة وقرابة 450 ألف غزاوى من مختلف الأطياف فى هجرة جماعية إلى سيناء لا يفكرون إلا فى الهرب من الحصار كأنه عيد لهم كما ذكر لى العشرات منهم، غزة كانت تحوطها عمارات شاهقة تلقى ببصرها من رفح الفلسطينية على شقيقتها رفح المصرية رافضة السلك أو الجدار الحدودى بينهما. الآن بعد 358 يوماً اختفت إلى الأبد عمارات غزة الشاهقة واختفت رائحة الأمنيات والطموح والحب والمغامرة، وراح طعم الفرح من أعين الصغار حتى الصبى الصغير ذى الملامح الغربية الحمساوى، والذى كان يلهو مع صبية فتحاوية أكيد تغيرت أحوالهم بعد أن غطت برك الدماء الزكية أرض وشوارع غزة بعدما خلت من المارة، رفح الفلسطينية أيضا باتت تشبه شقيقتها المصرية مدينة أشباح حطام العمارات التى انهارت وتهاوت على الرؤوس فقط هى الباقية وبقايا الأنفاق تحولت إلى جحور للفئران والقطط التى فرت من العدوان الإسرائيلى البربرى. دخلت إلى القطاع خطوات قليلة فقط تحسباً لقصف إسرائيلى مفاجئ، على الحدود اختفت العمارات الدخان يتصاعد من مناطق عدة المنازل تحولت لأكوام من الطوب والأسمنت وبقايا أشجار الزيتون والفاكهة على الحدود كل ما تبقى من الأشجار المثمرة ، أين غزة التى أعرفها؟ جاء الرد سريعاً كما توقعت 3 طائرات إسرائيلية إف 16 حلقت فوق معبر رفح دارت دورتين ورسمت رقم 20 فوق المعبر بالدخان كل يوم ترسم رقم العدوان، لفت نظرى لذلك أحد الزملاء، لم أصدقه إلا عندما رأيت بنفسى غارة مفاجئة لم أسمع إلا دوى الانفجارات وأزيز القنابل والصواريخ، التى تدك الحدود ومناطق الأنفاق بصورة متواصلة، الطائرات تحلق ببطء شديد وكأنها فى نزهة فوق سماء رفح المصرية والفلسطينية على حد سواء، من بعيد سيارات إسعاف تهرع لأماكن القصف وبقايا طرق إسفلتية تحولت إلى حفر كبيرة حولها تتأجج النيران قوافل الإغاثة فى انتظار انتهاء الغارة التى هزت معبر رفح وأطاحت بالألواح الزجاجية الباقية فيه وبعض الزملاء المصورين يلحقون بقايا القصف. حرب غير متكافئة غزة تحولت لساحة حرب غير متكافئة وغير آدمية، طائرات تواجه صواريخ القسام تماماً، الأمر يشبه السباق بين السلحفاة والأرنب، الأرنب المغرور بقوته وجد نفسه فى نهاية السباق خلف السلحفاة شد رأسه كيف ذلك؟ لم يفطن لحيلة السلحفاة التى استعانت بالأخريات من السلاحف لاستكمال السباق، هذا حدث فقط فى فيلم كرتونى، لكن سلحفاة غزة بلا أخريات تنجدنها من الأرنب أو من الكلب المسعور. غادرت المعبر إلى الجانب المصرى بناء على تعليمات الأمن خوفاً علينا اتجهت سريعاً إلى أعلى عمارة فى رفح المصرية قرب بوابة صلاح الدين، عمارة الشاعر 4 طوابق، كانت تطل على عمارة أخرى فى رفح الفلسطينية أكثر من 20 طابقاً،الآن عمارة الشاعر تقف وحيدة وعمارات القطاع تحولت إلى حطام، بينما تكسر زجاج عمارة الشاعر وأبوابها من جراء القصف المتواصل، الحدود خربة وخالية إلا من قوات الأمن التى تغلق الطرق المؤدية للحدود خوفاً من تسلل فلسطينيين إلى سيناء، وربما حتى لا يقترب أحد المدنيين من الحدود فيصاب أو تسقط عليه شظية، كما حدث مع كثيرين. تجولت ببصرى فى القطاع الملىء بنيران وبقايا منازل وعمارات شاهقة، كانت شاهدة على الانتفاضة والمقاومة والتحمل والنضال بعد العدوان الإسرائيلى، الأشجار اختفت وبقايا أثاث المنازل ملقاة فى الشوارع، قال لى ابن صاحب العمارة كفاية يا أستاذ غزة راحت والسلام، انزل أحسن الغارات على الحدود متواصلة وبعدين يسقط علينا صاروخ زى الخمسة اللى سقطوا قبل كده والأهالى غادروا بلا عودة، فى تلك اللحظة دخلت أكثر من 10 سيارات إسعاف قادمة من قطاع غزة إلى معبر رفح تحمل الجرحى الفلسطينيين، واتخذت طريقى راجعاً.