لم يكن الراحل العظيم قداسة البابا شنودة الثالث مجرد رجل دين أو مرشد روحى أو رجل دولة له مواقفه القومية وأدواره الوطنية المشهود لها بإخلاص صادق وتفانٍ نبيل وانتماء عميق، تخرج جذوره من تربة هذا الوطن، فقد كان الأنبا شنودة الثالث مثقفًا حقيقيًا واسع الاطلاع, عميق الفهم, بعيد الرؤية, إلا أن ثمة جانبًا لافتًا وفرعًا بارزًا يمثل أمامنا من شجرة عطائه الباسقة المتشعبة الإسهامات؛ وهو إبداعه الشعرى, فقد كانت للبابا شنودة عدة قصائد شعرية نظم معظمها فى الفترة ما بين العامين 1946م و1961 م , دارت قصائده فى إطار وجودى يتلفع بأردية من الحكمة المتفلسفة, وعلى ما تتصف به قصائده من بعض التقريرية والمباشرة إلا أن ثمة عذوبة تبدو متدفقة عبر شعره الذى يحمل عديدًا من اللفتات الشعرية الملفتة. ويسرى عبر شعر " الأنبا شنودة الثالث" شعور بالاغتراب يكتنف قصائده, كما فى قصيدة لقداسته بعنوان "غريب", التى يقول صوتها الشعرى: غريبا عشت فى الدنيا نزيلا مثل آبائى غريبا فى أساليبى وأفكارى وأهوائى غريبا لم أجد سمعا أفرغ فيه آرائى غريبا لم أجد بيتًا ولا ركنًا لإيوائى فعبر تلك الأبيات المتكئة على تكرار كلمتها الاستهلالية "غريبًا" فى تدويم يتسم بارتفاع إيقاعه الموسيقى يتبدى شعور الذات الشاعرة بالاغتراب الوجودى المتوارث عن الآباء، وكأن هذا الاغتراب لصيق الصلة بالذات الشاعرة التى يتجاوز حضورها الحضور الآنى ليتمدد ممتدًا عبر الزمان, فهى تمثل الذات الإنسانية فى حضورها عبر تاريخها الممتد الحافل بشعور بالاغتراب. بيد أن الشعور بالغربة يتفاقم ليقترن بالشعور بالتيه كما فى قصيدة بعنوان "تائه فى غربة" التى يقول صوتها الشعرى مخاطبًا الصديق المفترض حضوره فى تقنية يتبدى فيها استثمار الشاعر/ البابا شنودة الثالث لعادة كلاسيكية فى الشعر العربى وهى استدعاء صديق طلبًا لمناجاته: أنت مثلى تائه فى غربة وجميع الناس أيضًا مثلنا نحن ضيفان نقضى فترة ثم نمضى حين يأتى يومنا عاش آباؤنا قبلا حقبة ثم ولى بعدها آباؤنا إن مناجاة الذات الشاعرة للصديق/ الآخر تحمل شعورًا بالحاجة إلى توحد إنسانى فى بلورة مفاهيم إنسانية عن هذا الوجود الذى مآله إلى زوال, وكالقطعة السابقة يتكرر عقد مقارنة عبر مستوى رأسى فى إطار محور تاريخى يستدعى الآباء الذين ما إن قضوا حقبة أجلهم العمرى فى هذه الحياة ثم غادروها, وقد تحمل مناجاة الآخر / الصديق مناجاة للذات, فيكون هذا حوارًا مع النفس, كما تحمل كذلك أيضًا مرايا الحوار بعدًا آخر له وهو محاورة المتلقى فى استحضار حميم له ينبنى على إقامة جسور صداقة تهيىء لروابط من الألفة تفسح طريقًا لصوت الذات الشاعرة للدخول إلى قلب المتلقى واستقطاب وعيه, ومع تفاقم شعور الذات بالاغتراب تبرز الدعوة إلى اعتزال العالم المادى خلودًا للصفاء الروحى وانعتاقًا من انشغالات الجسد وهموم العالم, ونشدانًا لبلوغ سر الوجود كما فى قصيدة بعنوان "من تكون؟" التى يحمل عنوانها الذى هو بمثابة بوابتها النصية تساؤلًا وجوديًا يتوسل بلوغ الذات كينونتها: كل ما هو لك صمت وسكون وهدوء يكشف السرالمصون اعتزلت الناس حتى ما ترى غير وجه الله ذى القلب الحنون وتركت الكون بل أنُسيته لم يعاودك إلى الكون الحنين فالذات تتوسل بالسكون وتلوذ بالصمت بحثًا عن سر الوجود وتمتعًا بالتواصل مع الله ورؤية وجهه الكريم, غير عابئة بهذا الكون الذى أمسى كمًا مهملًا ووجودًا منسيًا. وفى ترحالها الدؤوب وبحثها المتواصل وسعيها المفتش عن أسرار الوجود تدرك الذات فى اتضاع نبيل وقوفها على حافة اللايقين الذى لا يبلغ سر الوجود مهما بلغ مسعاها من جهد؛ كما فى قصيدة "تائه فى غربة": يا صديقى لست أدرى ما أنا أو تدرى أنت ما أنت هنا؟ غير أن الذات فى مسعاها الباحث عن سر الوجود تدرك عدميته وفناءه الذى هو حقيقته الجلية, كما نسمع صوت الذات الشاعرة فى قصيدة "من تكون" يقول: هل ترى العالم إلا تافها يشتهى المتعة فيه التافهون كل ما فيه خيال يُمحى كل ما فيه سيفنى بعد حين والبارز فى شعر البابا شنودة أنه يتزين بحلى بديعية ثرية وغير متكلفة فى آنٍ, فيؤدى دوره فى إنتاج دلالات النص, مثلما يبدو فى تقنية التقابل كما فى قصيدة " وأب أنت" إذ تقول الذات الشاعرة فى رثاء المربى الفاضل "حبيب جرجس": يا قويا ليس فى طبعه عنف ووديعًا ليس فى ذاته ضعف يا نبيلًا كلما عوديت كم كنت تنسى الشر للجانى وتعفو يا حكيما . أدب الناس وفى زجره حب وفى صوته عطف فيؤدى التقابل فى حضوره الثرى عبر مستويين سلبى بإيجاد الصفة ثم سلبها (القوة – ليست بالعنف/ الوداعة ليست هى ضعف), وعبر مستوى إيجابى (القوة فى مقابل الوداعة), و(العنف فى مقابل الضعف), (والتأديب والزجر فى مقابل الحب والعطف) يعمل هذا التقابل على تنقية المفاهيم من بعض شوائبها العالقة التى قد تجنح بها إلى منحى مضلل, فالقوة لا تعنى العنف, والوداعة لا تعنى الضعف, وتأديب الناس وزجرهم ينطوى على حب وعطف, فالتقابل يسهم فى إعادة تعريف المفاهيم بتخليصها من زوائدها المضللة. رحم الله الراحل العظيم قداسة البابا شنودة الثالث رمزًا عظيمًا لكل المصرين, ومثقفًا رحب الآفاق, وشاعرًا له حضور شعرى يُحمد على إبداعاته فيه.