كتب - أسامة الألفي:للبابا شنودة رحلة طويلة مع الشعر الذي أحبه حتي النفس الأخير من حياته, إذ كان قارئا نهما له حفظ آلآفا من الشعر العربي قديمه وحديثه, وكتب عشرات من القصائد لم يسع لنشرها لتفرغه لمهمته الكنسية, والقاريء لقصائده تشده لغته الشعرية البسيطة التي تجمع بين السهولة والأناقة, وهي لغة تعكس نظرة البابا الراحل إلي الدنيا فقد عاش حياة بسيطة في ظل الرهبنة, وأعتبر القصيدة موقفا وحوارا مع النفس, وفضاء مفتوحا قائما علي الحلم بعالم فاضل, فضاء يعبر عن الشيء المكبوت ليروي الظمأ الروحي للشاعر ويفرغ ذاته من عوامل الكبت الحضاري, وما يعتمل في صدره من توترات. فالعملية الإبداعية عنده بمثابة تطهير ذاتي( كاثارسس), والشعر بالنسبة له تعبير عن الإنسان وأحلامه وهو في ذلك يتفق مع قول الفيلسوف الألماني مارتن هيدجرإن الشعر هو الأساس الذي يقوم عليه التاريخ وليس مجرد زينة تصاحب الوجود الإنساني, لهذا نراه يستروح الاستغراق في رحاب الشعر الروحي الإنساني, فلا يكاد القاريء يفرق بين قصائده وشعر المتصوفة المسلمين, فكلاهما اعتبر الشعر سلاحا في دعوته للفضيلة والخير وحلمه بالمدينة الفاضلة, وهذا ليس بغريب علي شاعر قام عالمه الشعري علي الحب والتسامح واتسمت موسيقاه بهذه المعاني. وقد بدأت رحلة البابا مع الشعر في مرحلة مبكرة من صباه, وكان يحافظ علي الوزن والقافية والتشطير, ففي سن السادسة عشرة كتب عن والدته التي ماتت ولم يرها: أحقا كان لي أم فماتت.. أم أني خلقت بغير أم؟ رماني الله في الدنيا غريبا.. أحلق في فضاء مدلهم وحبه لأمه التي لم يرها وحنينه إليها جعله يحتفي الأمومة ويذكر فضلها في أكثر من قصيدة منها قوله: نام في أمن ولكن قد سهرت.. في إرتياح, ما شكوت أو وهنت قد ضممت الطفل حبا واحتضنت.. وكذا في قلبه الغض سكنت ما احتجزت منه شيئا أو ضننت.. أنت نبع من حنان حيث كنت وأثناء دراسته في مدرسة الإيمان بشبرا وقف في إحدي حفلات المدرسة أمام جمع من كبار موظفي إدارة التعليم ووزارة المعارف وأنشد قصيدة من تأليفه تدل علي عمق الروح الوطنية لدي الصبي نظير جيد وهذا اسمه قبل ترهبنه, قال: تريد الكنانة عزما قويا.. شبابا يضحي وشعبا جديدا شبابا يعيد بناء الجدود.. يعيش شريفا يموت شهيدا من الآن لنبني اتحادا.. وننسي العداء وننسي الحقودا ويتبدي هذا الحب الكبير لمصر وترابها في قوله: جعلتك يا مصر في مهجتي.. وأهواك يا مصر عمق الهوي إذا غبت عنك ولو فترة.. أذوب حنينا أقاسي النوي.. إذا عطشت إلي الحب يوما.. بحبك يا مصر قلبي ارتوي نوي الكل رفعك فوق جعلتك الرؤوس.. وحقا لكل أمريء ما نوي وكغيره من الشعراء نراه يحيا في أحيان غربة الروح لا غربة الجسد, وقد عبر عن هذا المعني في قوله: غريبا عشت في الدنيا.. نزيلا مثل آبائي غريبا في أساليبي.. وأفكاري وأهوائي غريبا لم أجد سمعا.. أفرغ فيه آرائي ولعل شعره الروحي هو الأكثر بروزا لطبيعة حياته, وتتميز قصائده بالنقاء والعفوية والصدق مع الذات, والإيمان بقضاء الله وقدره, وكراهة التطرف في كل شيء, إذ كان يؤمن أن المبالغة نوع من الكذب, فليس كل صمت فضيلة ولا كل قول خطيئة, يقول في قصيدة بعنوان: أحبك يارب في خلوتي أحبك يا رب في خلوتي.. تنادي فؤادي بعمق الكلم وفي قصيدة أخري يستلهم قصة النبي يوسف وزوجة عزيز مصر: أنا لاأملك هذا الثوب بل لاأدعيه هو من مالك أنت لك أن تسترجعه فانزعي الثوب إذا شئت وان شئت اتركيه انما قلبي لقد اقسمت ألا تدخليه أنا لاأملك قلبي وكذا لن تملكيه انه ملك لربي وقد إستودعنيه ويقول في قصيدة أخري: لست أدري كيف نمضي أو متي.. كل ما أدريه أنا سوف نمضي في طريق الموت نجري كلنا.. في سباق بعضنا أثر بعض وتحت عنوان مشاعر يقول: لكنها مشاعر تسكن معي تسكن في حشاشتي في مهجتي.. في أضلعي وفي عالم البابا الروحي تكمن روح مرحة صحبته طوال حياته, ولم تفارقه حتي في أحلك الظروف, وهذه الروح المرحة المنبثقة عن سليقة, دفعت به لكتابة قصائد فكهة شبيهة بالشعر الحلمنتشي, وهذه القصائد وغيرها تكشف عن شاعر موهوب, ملم بأصول فن الشعر, كان يمكن ان يكون واحدا من شعراء مصر الكبار, لولا أن فرضت عليه طبيعة الرهبنة نبذ مشاعره وتسخير قدراته لخدمة رعيته.