إن محاولة وضع صحة المصريين على خريطة أولويات أى أحد الآن قد تبدو ضرباً من الخيال، فالبوتجاز والبترول وعمليات التجميل ومجلس الشعب والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وريكلام أهم بكثير من السكرى والضغط وفيروس سى الرذل وانفلونزا الفراخ البلدى، كذلك الرغى فى المواضيع الثانية أسهل بكتير من الرغى عن الصحة والدواء وتفاصيلهما. أتمنى أنكم مازلتم تقرأون لأن السطور القادمة بها أرقام سيئة وصادمة عن صحة المصريين (يعنى أنت وأنا بالمناسبة). فى مصر الآن 7 ملايين مريض سكرى و11 مليون مصاب بفيروس سى، وعدد آخر لا أعلمه مصاب بالسرطان.. ولو كنا متفائلين قليلا وافترضنا أن بعض مصابى السكرى عندهم سى أو العكس فنحن نتكلم عن متوسط 12 مليون مصرى مصابين بأمراض مستعصية جداً تقلل من إنتاجية الفرد أو قد تمنعه من العمل تماماً وتخرم ميزانية أى دولة وأى بيت، ناهيك عن التأثير فى المجتمع، أسوأ من ذلك كله التأثير على الأمن القومى.. فأنا لا أعلم من أين ستأتى مصر بعساكر مجندين يحمونها من الداخل والخارج.. الحل الآخر هى تجنيد عساكر مرضى ليعالجهم الجيش أو عساكر من الصين؟، فبحسابات معقدة إذا استمرت معدلات الإصابة كما هى، فلن يكون هناك أصحاء فى مصر فى خلال 15 سنة. يعنى كش ملك من غير ولا عسكرى. ليس لدى أية أدلة على أن هذا الدمار الصحى خلال ال 25 سنة الماضية مدبر أو منظم أو مخطط، ولكنه بمعظم المقاييس الطبية هو انهيار صحى غير اعتيادى! لا أريد أن أسترسل اكثر فى تبعيات هذا الانهيار الصحى.. ولكن بدون مبالغة إذا كان هناك خطر بنفس أهمية خطر مياه النيل أو الحرب النووية الأسرائيلية الإيرانية فهو خطر صحة المصريين. أضف إلى ذلك فى ظل الظروف الاقتصادية الحالية أن معظم مؤسسات القطاع الخاص الصحية والجمعيات الخيرية تعانى معاناة حقيقية وبعضها مهدد بالإفلاس نظرا للظروف المحيطة وضعف الإنتاج. إذاً هناك مرضى كتير أوى + قطاع حكومى صحى ببنيه تحتيه منهارة + قطاع الخاص يعانى اقتصادياً لقلة فلوس الزبائن. إذا ما الحل: فى البداية يجب أن نتنبه أن تحدى الرعاية الصحية للأصحاء ليس سهلا فما بالكم برعاية المرضى.. أيضا أن ليس هناك ما يسمى الحل الواحد الأوحد، بل يجب دمج وتفعيل عدة حلول مع بعضها، فمثلا لا توجد عصا سحرية تعالج السكرى وفيروس سى، ولكن هناك عدة حلول متوازية وممكنة وعاجلة يمكنها السيطرة على تلك المعدلات وإيقاف نموها وعلاج المرضى. هناك حلول المدى الطويل ذات الرؤية، وهى هامة ولكنها للأسف لا تقدم حلا سريعا للموقف.. وهناك الحلول المؤقتة وهى أيضا مكلفة ولا تحل المشكلة بالشكل الصحيح. ففرضاً إذا اتخذنا قرارا فوريا الآن بإصلاح الرعاية الصحية وتوفرت الإمكانات والتمويل فإن ذلك سيستغرق 7 سنوات للتنفيذ.. وعندها ستكون المشكلة أكبر حجما وأكثر تعقيداً. الأفضل هو تبنى حلول متزنة ذات طابع تنفيذى سريع وذات بعد طويل المدى وهى ما تسمى "بسياسات العبور"، وهى سياسات متوازنة ما بين المدى القصير والمدى الطويل.. فمثلا كما ذكرنا توجد مؤسسات رعاية صحية قطاع خاص تعانى اقتصادياً، بينما فى نفس الوقت هناك قوائم انتظار طويلة أمام المستشفيات والمؤسسات الصحية الحكومية المنهارة. إحدى أهم سياسات العبور تلك هى أن تُفعل أو تحرك الدولة دور القطاع الصحى الخاص للإسراع بتحويل تلك القوائم المنتظرة للعلاج إلى القطاع الخاص، وبالتالى تدفع الدولة الفاتوره بعد خصومات قوية من القطاع الخاص.. سيساعد ذلك القطاع على النهوض من مشاكله الاقتصادية، وكذلك يسرع بإنقاذ المرضى المنتظرين لحين افتتاح أو اكتمال المشروع الحكومى المنتظر، بل إن ذلك سيرفع مستوى جودة القطاع الخاص الصحى ليحصل على العقود الحكومية، ويكون عند مستوى الجودة القياسية. هناك أيضا سياسة الحوافز الصحية.. فلا يعقل أن تحاسب شركات المياه ضرائبيا نفس محاسبة شركات المياه الغازية، فالثانية تأخذ المياه وتضيف لها ما يجعلها غير صحية وتكسب فيها أكثر.. ولا يعقل ان تحاسب شركات دخان المعسل نفس المحاسبة الضرائبية للأفران. ولا يجوز أن تدفع سيارة "مفوتة" نفس ضريبة سيارة لا تبخ سمومها فى الشارع.. وأن يكون ثمن الأكل اللى فيه دهن زى تمن اللى مافهوش دهن.. لا يجوز أيضا أن تكون الضرائب على النوادى الرياضية كالضرائب على الكابريهات.. وأن اللى يعيش خارج المدن زى اللى يعيش داخلها.. أعلم أن الكل يتذكر عن الدنمارك الرسوم المسيئة، ولكننا لا نعلم أنهم طبقوا ضريبة إضافية مضاعفة على المأكولات الدهنية.. رغم أنهم من أكبر مصنعى الزبدة فى العالم. معظم الأفكار ليست جديدة أو مفتكسة من قريحتى العبقرية، بل هى أفكار يعلمها معظم العاملين بالقطاع الصحى والمالى والضرائبى، ومطبقة فى بلاد كثيرة عندهم "برضه" أزمة بوتجاز ومجارى، ولكن واخدين بالهم من صحتهم وأمنهم القومى. إن ما يدهشنى ويعمق إحساسى بنظرية المؤامرة على صحتنا هى إحجام المسؤلين وغياب الشجاعة لتنفيذ تلك المبادرات، ولا حتى رغبتنا فى إخراجها للواقع. يا سادة لو استمر الحال كما هو عليه دون تدخل سريع سيأتى اليوم الذى يدخل فيه الضابط على رئيسه قائلا: تمام يا فندم العساكر خلصوا من الأمراض ويسقط الضابط صريعا هو الآخر ووراءه قائده.. ولا أعلم لذلك سببا غير الجهل واللامبالاة مصحوبا باستكمال منظومة إضعاف مصر.