في الماضى القريب كانت جدتى تستأنس بصوت إذاعة القرآن الكريم، كانت الإذاعة ونيسها وقتما ينام الجميع، وكانت بوصلتها للوقت قبل أن تنطق الساعة، كان بإمكانها أن تعرف من خلالها " في أي وقت الآن" عندما تسمع قول الله تعالى " "وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ"، وكانت تستعجل تحضير السحور عندما يقول المذيع " مع خواطر فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى"، لأن المحطة اللاحقة هي الانتقال إلى إذاعة خارجية لنقل صلاة الفجر. ماتت جدتى وورثنا عادتها، باتت الصلة الممتدة بيننا وبينها " إذاعة القرآن الكريم" فهى لا تزال تشدو في منزلنا صباح مساء، ولم نرث الإذاعة فقط، بل ما تحويه الإذاعة من كنوز نستأنس بها فى أوقاتنا المختلفة، فكنا صغارًا نلملم أغراضنا على صوت المذيع محمد عويضة وهو يقدم برنامج "بريد الإسلام"، وإذا ما انتهى البرنامج ونحن لا زلنا لم نجهز بعد، كنا نعرف أننا تأخرنا على المدرسة، كبرنا قليلا وصرنا نسهر لمنتصف الليل، وصار صوت الشيخ إبراهيم الشعشاعي وهو يقول " وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلً" مؤشرا لأن برنامج قطوف من حدائق الإيمان حان موعده، وهو ما يعنى أن الليل قد انتصف، ولابد أن نننام الآن لنصحوا في الصباح. 2 على ذكر قطوف من حدائق الإيمان، تعود الذاكرة للأشهر القليلة الماضية، عندما دشن رواد الإذاعة حملات من أجل التمديد للإذاعى الكبير " شحاتة العرابى"، وخيرا فعل القائمون على الإذاعة وجددوا له استجابة لجمهور الإذاعة، لكن خيط لم يلتقطه القائم على الأمر داخل أروقة الإذاعة العريقة، أن الجيل الذى لا يزال يستمع للإذاعة ويستأنس بها، يسحره أصوات الإذاعة التاريخية، عدم إلتقاط الخيط دفع المجددون على آسير موجات الإذاعة، تقديم أصوات جديدة تعيد تقديم ابتهالات العملاقة، وهو تجديد جانبه الصواب، فمن ذا الذى سيحب أن يسمع " ابتهال حفر في الذاكرة بصوت نصر الدين طوبار أو النقشبندى بأصوات جديدة غير مألوفه على آذان جمهور الإذاعة، وهو ما بات متكرر، بل دفع البعض إلى هجر الإذاعة. - رباه ها أنا ذا خلصت من الهوى وواستقبل القلب الخلى هواك.. وتركت أنسي بالحياة ولهوها ولقيت كل الأنس في نجواك... "كلمات لن تقبل الأذن أن تستمع إليها إلا بنغمات صوت العملاق نصر الدين طوبار" - لما بدا في الأفق نور محمد.. كالبدر في الأشراق عند كماله.. وأخضر وجه الأرض ليلة وضعه.. وانهل كل الغيث باستهلاله.. نشر السلام على البرية كلها وإعاد فيها الآمن بعد زواله.. "الحال نفسه، لن تقبل الأذن أن تسمع هذه الكلمات إلى بنغمات صوت النقشبندى".
3 لا يمكن لعاقل أن يكون ضد التطوير والتجديد، فهذه سنة الكون وضمان استمراريته، وهو الموقف ذاته من تطوير وتجديد الإذاعة، خصوصا أننى مشغول بالأساس بحال تطوير الصناعة التي أعمل بها " الإعلام" في ظل توغل " وسائل الإعلام الجديدة بما فيها السوشيل ميديا" على الوسائل التقليدية التي تربينا عليها، لكن التجديد مضمون النتائج يكن للمزيد من الرقى ولا يهدد التراث، وحال إذاعتنا الغالية الآن بعد بعض التجديد الذى أصابها " أنها صارت طارده لجمهورها القديم" فلم يعد يجد فيها آنسه، وصار غريبا بين أصوات لا تقدم ما هو أفضل من الأصوات التي طالما ارتبطنا بها لسنوات، وباتت صلة بيننا وبين من رحلوا من الجدات والجدود، وبين رائحة بيوتنا القديمة". فواصل إعلانية لا ترتقى بجمال الإذاعة وبحلاوة الأنس بها، أصوات جديدة غير مألوفة، وفقرات اتصالات هاتفية مفتوحة تزعج من يستمع لها ولا تترك له مساحة للاستماع إلى السائل أو الشيخ الذى يوضح له مسألته، صارت الأذاعة غريبة على مسامعنا، رغم أننا جمهورها الوفى حتى اليوم، وصار البعض يهجرها واحدا تلو الآخر، فأى تطوير هذا الذى يجعل الإذاعة في نهاية المطاف بلا مستمعين. 4 إن كانت الإذاعة تراهن على جيل جديد من الجمهور، وتضحى بالجيل القديم من مستمعيها الذين تربوا على صوت الإذاعة ويعرفون نغمات الفواصل ومقدمات البرامج، فيؤسفنى أن ابلغ القائم على الأمر أن الأجيال الجديدة التي لم تستأنس بالإذاعة وقتما كانت الرافاهيات محدودة، لن يجذبهم الفواصل الإعلانية والأصوات الجديدة في الإذاعة، فطبيعة الأجيال الجديدة ووسائطهم الذين يستمعون من خلالها مختلفة، هل سمع القائم على الأمر عن " البودكاست"؟ وأن كانت الإذاعة تريد أن تجنى أمولًا أكثر تدعم مواردها وتضمن بقائها فلن يجدى ذلك نفعا مع "تطفيش الجمهور القديم" الذى أظنه غير مقصود، بل "العز كل العز" وملايين الجنيهات تكمن في مكتبة الإذاعة القديمة" إذا ما احسنت الإذاعة استغلالهم بما يتناسب مع الوسائط الجديدة، وإذا ما وضعت الإذاعة خطة لتوسيع انتشارها، وجني المكاسب بدلا من لصوص مكتبة الإذاعة الذين يربحون الملايين عبر الأنترنت من محتوى هو بالأساس ملكا للإذاعة، فالأولى أن تصل الإذاعة لجمهورها القديم، وأن تعيد تقديم مكتبهتها في صور جديدة بما يتناسب مع الوسائط الحديثة، وأن تلاحق لصوص المحتوى، بدلا من أن تقدم لنا فواصل إعلانية تنفر الجمهور، أو فقرات اتصالات لا تؤدى ربع دور بريد الإسلام. وأخيرا لا يختلف أحد على حتمية أن تقدم الإذاعة مواهب جديدة، تعيد أمجاد دولة التلاوة والابتهال، لكن تقديم الأجيال الجديد لا يكون على حساب التراث المحفور داخل ذاكرة ووجدان جمهور إذاعة القرآن الكريم".