أثارت حادثة نائب مجلس الشعب البلكيمى الذى ادعى مهاجمته من قبل مجموعة من الملثمين كسروا أنفه بحسب أقوله، ثم خروج مدير مستشفى خاص مدليا بشهادته فى هذه القضية، جدلا واسعا، حيث انقسم الناس ما بين فريق مؤيدا لما فعله مدير المستشفى وآخر معارضا لموقفه ومتهما إياه بإفشاء سر مريض ائتمنه على أسراره. ولبيان هذه القضية لابد أن نعلم أن مهنة الطب مهنة عظيمة حظيت بثقة الناس، فالطبيب سواء أكان نفسيا أو عضويا يتحصل من مريضه على أسرار بالغة الأهمية بحكم مهنته، ومن أهم آداب مهنة الطب المحافظة على أسرار المرضى التى تظهر للطبيب، إما بأن يصرح المريض للطبيب بذلك السر، لأن الطبيب أهلا للثقة به، وإما بأن يظهر ذلك من خلال الكشف والتحاليل التى تجرى للمريض، والمحافظة على أسرار المرضى مصلحة عظيمة وجب مراعاتها، لكن فى بعض الحالات ينتج عن المحافظة على هذه المصلحة مفسدة عظيمة، فيقف الطبيب حائرا بين الأمرين هل يقدم المصلحة على المفسدة أو المفسدة على المصلحة؟ ومن هنا يجب على الطبيب أن يعلم الحكم الشرعى فى مثل هذه الحالات. وإفشاء السر محرم فى الأصل ومن الأدلة فى ذلك: قول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) الأنفال 27، فحفظ السر من قبيل حفظ الأمانة فيجب على الطبيب كتمه. وعن أنس بن مالك، قال: أسر إلى النبى صلى الله عليه وسلم سرا فما أخبرت به أحدا بعده، وقد سألتنى أم سليم فما أخبرتها به. رواه البخارى. وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله على وسلم إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهى أمانة. رواه أبو داود. ووجه الاستدلال هنا أن النبى جعل حكم السر حكم الأمانة فلا يجوز إضاعتها بإشاعتها. قال ابن القيم رحمه الله: فالمفتى والمعبر والطبيب يطلعون من أسرار الناس وعوراتهم على مالا يطلع عليه غيرهم، فعليهم استعمال الستر فيما لا يحسن إظهاره. وقد صدر قرار مجمع الفقه الإسلامى بجواز إفشاء السر فى المهن الطبية للضرورة كما يلى: أولا: السر هو ما يفضى به الإنسان إلى آخر مستكتما إياه من قبل أو من بعد، ويشمل ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان إذا كان العرف يقضى بكتمانه، كما يشمل خصوصيات الإنسان وعيوبه التى يكره أن يطلع عليها الناس. ثانيا: السر أمانة لدى من استودع حفظه التزاما بما جاءت به الشريعة الإسلامية، وهو ما تقضى به المروءة وآداب التعامل. ثالثا: الأصل حظر إفشاء السر، وإفشاؤه بدون مقتض معتبر موجب للمؤاخذة شرعا. رابعا: يتأكد واجب حفظ السر على من يعمل فى المهن التى يعود الإفشاء فيها على أصل المهنة بالخلل كالمهن الطبية إذ يركن إلى هؤلاء ذوو الحاجة إلى محض النصح وتقديم العون فيفضون إليهم بكل ما يساعد على حسن أداء هذه المهام الحيوية، ومنها أسرار لا يكشفها المرء لغيرهم حتى الأقربين إليه. خامسا: تستثنى من وجوب كتمان السر حالات يؤدى فيها كتمانه إلى ضرر يفوق ضرر إفشائه مصلحة ترجح مضرة كتمانه وهذه الحالات على ضربين: أ. حالات يجب فيها إفشاء السر بناء على قاعدة ارتكاب أهون الضررين لتفويت أشدهما، وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التى تقضى بتحمل الضرر الخاص لدرء الضرر العام، إذا تعين ذلك لدرئه. وهذه الحالات نوعان: ما فيه درء مفسدة عن المجتمع أو جلب مصلحة للمجتمع. وما فيه درء مفسدة عن الفرد أو درء مفسدة عن المجتمع. ومما يدل على جواز كشف السر عند الضرورة ما يلى: قول الله عز وجل فى قصة يوسف عليه السلام: (قال هى راودتنى عن نفسى). يوسف 26. قال ابن عبد السلام رحمه الله: الستر على الناس شيمة الأولياء فضلا عن الأنبياء، وإنما قال يوسف ليدفع عن نفسه ما تعرض له من قتل أو عقوبة. وعن زينب امرأة عبد الله رضى الله عنهما قالت: انطلقت إلى النبى صلى الله عليه وسلم فوجدت امرأة من الأنصار على الباب حاجتها مثل حاجتى، فمر علينا بلال فقلنا سل النبى صلى الله عليه وسلم أيجزى عنى أن أنفق على زوجى وأيتام لى فى حجرى، وقلنا لا تخبر بنا فدخل فسأله فقال: من هما، قال زينب قال: أى الزيانيب قال: امرأة عبد الله قال، نعم لها أجران أجر القرابة وأجر الصدقة. قال النووى رحمه الله: قد يقال إنه إخلاف للوعد وإفشاء للسر وجوابه، أنه عارض ذلك جواب رسول لله صلى الله عليه وسلم وجوابه صلى الله عليه وسلم واجب محتم لا يجوز تأخيره ولا يقدم عليه غيره وقد تقرر أنه إذا تعارضت المصالح بدئ بأهمها. وقد اتفق على أنه ليس من الضرورة وليس من جواز الإفشاء أن يكون المريض راضيا بذلك فهذا ليس من حقه أن يأذن فيه. ومن الحالات التى يجوز فيها للطبيب إفشاء سر المريض دون أخذ موافقته: اعتراف المريض بارتكاب جريمة اتهم فيها شخص آخر. إذا تبين عدم توافق أحد الزوجين مع الآخر عند الكشف الطبى قبل الزواج. إذا كان أحد الزوجين مصابا بمرض جنسى معد (ينتقل بالمباشرة). وهذه الحالات تحتاج تفصيل آخر، وهذا والله أعلم.