اليوم يلتئم مجلسا الشعب والشورى فى اجتماعهم الأول فى سلسلة اجتماعات بغرض تشكيل الجمعية التأسيسية. ورغم أن كلمة «توافق» أضحت مصطلحًا مبتذلاً من كثرة استعماله فى غير موضعه، فإن أهم المواضع التى كانت تحتاج لتوافق لم تكن محلاّ لأى جهد توافقى. فالتوافق ليس مجاله انتخابات الرئاسة وإلا تحول إلى التفاف على إرادة الناس، بينما التوافق على معايير موضوعية لاختيار أعضاء الجمعية التأسيسية للدستور، لو حدث لكان استعمالاً للتوافق فى موضعه. الحقيقة أن الذين وضعوا ترتيبات المرحلة الانتقالية حرصوا كل الحرص على إثارة شهوة الحكم والاستئثار لدى القوى السياسية بما لا يسمح لهم بالتفكير فى أن توافق الجميع هو أهم شرطٍ لعبور هذه المرحلة. وبالتالى وجدنا القوى السياسية الأساسية ترفض أى حديث عن التوافق على أى شىء قبل الانتخابات البرلمانية باعتبار أن ذلك يمثل استباقًا للإرادة الشعبية، بينما الأمر فى حقيقته أنه استباق لما تراه تلك القوى استئثارها بنتائج الإرادة الشعبية. والأعجب أنه بعد انتهاء مراحل انتخابات البرلمان الطويلة والمملة فى غياب أى روح توافقية طرحت جهة مجهولة فجأة فكرة التوافق على رئيس الجمهورية، دون بيان توافق مَن مع مَن، تاركين الموضوع مفتوحًا للاجتهادات، والتى لم تتعب كثيرًا فى اكتشاف أطراف التوافق المشين. فالذين رفضوا التوافق مع التيارات السياسية الأخرى وائتلافات الثورة هم أنفسهم من توقفوا بإعجاب أمام فكرة التوافق مع جهة مجهولة معلومة حول رئيس ما لجمهورية الموز التى يحلم البعض بأن تحل محل مصر الكبرى. ولا نرى فى اجتماع اليوم لغرفتى البرلمان أى أمل حقيقى فى التوافق على معايير موضوعية للاختيار، وإنما سنرى اقتراحات واقتراحات مضادة لطرق بدائية لاختيار أعضاء الجمعية التأسيسية. يحاول كل طرف من خلال اقتراحاته أن يحقق لنفسه المزيد من المكاسب بالهيمنة على الجمعية التأسيسية باعتبارها إحدى الغنائم ومن توابع معارك الانتخابات البرلمانية. والكارثة، التى حذرنا منها مرارًا، أن أغلبية البرلمان تطالب، وستنفذ ذلك باستعمال أغلبيتها، بتكريس مبدأ المحاصصة فى تشكيل الجمعية التأسيسية، بأن يحصل كل طرف على حصة له فى الجمعية التأسيسية توازى حصته فى البرلمان!!! الكارثة فى هذه الاقتراحات أنها تثبت ما كنا قد حذرنا منه آلاف المرات من هيمنة الأغلبية السياسية، وهى بطبيعتها أغلبية عارضة ومؤقتة مهما قدرنا قيمتها وأكدنا احترامها، على جمعية وضع الدستور، لأن مؤدى ذلك أن التيارات الأخرى لن تقر بالدستور الذى ستضعه تلك الجمعية، وستنتهز أول فرصة، عندما تتحول لأغلبية، لإسقاط الدستور والبدء من جديد فى وضع دستور يتلاقى مع رغباتها والتى ستفرضها بأغلبيتها وقتذاك. ومن ثم يتحول الدستور من وصفة للاستقرار إلى محل للنزاع الدائم والتعديل المستمر بما يخلق عصرًا من الشقاق والخلاف والاضطراب ولا يؤسس لأى نهضة. أما إذا كانت الأغلبية السياسية تستبعد هذا الاحتمال لاعتقادها أن أغلبيتها ستستمر، فإن الكارثة أكبر، لكونها ربما تميل إلى وضع أحكام تكرس بقاءها واستمراريتها، ومن ثم تحولنا لدكتاتورية جديدة ستؤدى لاندلاع ثورة أخرى، وهو ما يعيدنا مرة أخرى لنقطة الصفر أو حتى ما يسبقها. لأ أدرى أين كان العقل عندما تم وضع هذه التوليفة العجيبة بمنح البرلمان سلطة تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور على خلاف كل الأعراف والسوابق الدستورية. وكيف لم يدرك من ألف هذا التأليف العجيب أن البرلمان يعنى الأغلبية السياسية، والأغلبية السياسية بعد الثورات قد تكون أشد اعتزازًا برأيها من الدكتاتوريات، ولا تميل إلى التوافق، لأنها لا تفعل ذلك إلا عندما تشعر ببعض التواضع، وهى لا تدرك معنى التواضع إلى بعد أن تمسك بالحكم وتجرب رؤاها فتكتشف أن الدول بعد الثورات الكبرى لا يمكن لفصيل واحد أن يديرها أو أن يخرج بها من مشاكلها. نحن الآن فى مرحلة اعتزاز الأغلبيات برؤاها، واعتقادها فى الصواب المطلق لوجهات نظرها وإيمانها بأنها ستحقق النهضة، وتتخذ من تركيا مثالاً وقدوة، غير منتبهة أن تركيا لم تتحول للديمقراطية عبر ثورة، وأن نهضتها جاءت بسبب تراكم محاولات الجميع، وعندما جاء أردوجان بحزبه قاد مرحلة جديدة من التطور بل القفز للأمام مستندًا إلى إنجازات سابقيه. نحن سنقاسى منذ اليوم ولفترة قادمة من معضلة اختيار لجنة وضع الدستور التى ربما أرضت البعض لكنها لن ترضى كثيرين، وسيقول البعض إنه لا يمكن إرضاء الجميع، وإذا كان غير الراضين أقلية فلا ضير «!!» ولا أدرى ماذا أقول لمن يردد هذا القول السخيف، سوى أنه لا يميز بين البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى يجوز فيها التنوع والاختلاف، ولا ترضى الجميع دائمًا. والدستور الذى يجب أن يرضى الجميع، ويجب أن يرى كل شخص وكل حزب وكل جماعة وكل طائفة نفسها فى هذا الدستور وإلا فإن عدم الرضى يتحول لتشكيك فى الشرعية. دعونا نستمر فى المشاهدة، مادام لا يوجد من بيننا رجل رشيد ينهض ليقول للناس إن الجمعيات التأسيسية للدستور معيارها الأول أنها تمثل الجميع ولا يغلب فيها أحد، وسنرى ما ستسفر عنه تلك التجربة الفريدة فى شذوذها. وربما نلتقى بعد فترة مقتنعين بأننا فى حاجة لفصل المسار الدستورى عن الانتخابى، بحيث توضع قواعد موضوعية خاصة لتشكيل الجمعية التأسيسية تجعلها ممثلة للوطن لا للأغلبية السياسية. أو ربما ينتبه المنعقدون اليوم إلى حقيقة أن التوافق مكانه الطبيعى الدستور وليست كواليس الانتخابات. لو أنجز البرلمان اليوم مشروعًا موضوعيّا يتضمن قواعد محايدة لاختيار أعضاء الجمعية التأسيسية للدستور بغض النظر عن انتماءاتهم، فإنه سينجو وسننجو جميعًا، أما لو تبنى طريقة المحاصصة أو الاختيار على أساس التصويت بطريقة تحسمها الأغلبيات والأوزان النسبية للأحزاب السياسية فإنها ستكون سابقة سيدينه التاريخ عليها وستوقعنا فى مأزق عظيم. عافانا الله من سوء العاقبة.