عقب الأحداث المأساوية في شارع مجلس الوزراء انهمرت سيول من المبادرات، ورغم تفاوتها في بعض التفاصيل، فإنها استهدفت ضغط ماتبقى من المرحلة الانتقالية للتبكير بنقل السلطة إلى الرئيس المنتخب. وفي نهاية المطاف لم تسفر كل هذه المبادرات عن الكثير، بل إنها في الحقيقة لم تسفر سوى عن اقتراح لم يتحول بعد إلى قرار باجراء انتخابات مجلس الشورى على مرحلتين بدلا من ثلاث، وذلك لاتاحة وقت أطول لعملية وضع الدستور، باعتبار أن وجود الدستور الجديد لابد أن يسبق انتخاب الرئيس. وهكذا عدنا إلى القضية الأصلية التي فرقت بين القوى السياسية المصرية منذ استفتاء 19 مارس الماضي حول التعديلات الدستورية، وهي الفرقة التي حاول الاعلان الدستوري احتواءها دون جدوى، لكن العودة إلى القضية الأصلية لاتعني بالضرورة العودة إلى المربع رقم (1) لأن الاختلافات نشأت بين مطلب الدستور أولا، ومطلب الانتخابات أولا، وبما أن الانتخابات قد بدأت فعلا، وانقضت مرحلتان من انتخابات مجلس الشعب، وتوشك المرحلة الثالثة على البدء، وبما أن نتائج المرحلتين الأولى والثانية أظهرت لمن ستكون الأغلبية في البرلمان المقبل، فلم يعد من الممكن تجاهل هذه المعطيات في أي اقتراح أو مبادرة حول المستقبل، خاصة حول عملية وضع الدستور، التي نعلم جميعا أنها واحدة من المشكلات الكبرى في مصر بعد ثورة 25 يناير. وفي الحقيقة فإن سيول المبادرات التي تدفقت عقب محاولة فض الاعتصام أمام مجلس الوزراء لا يشبهها إلا فيض الوثائق التي انهمرت بعد استفتاء 19 مارس الماضي للوصول إلى توافق وطني حول مبادئ الدستور الجديد، بما يضمن مدنية الدولة، وديمقراطية الحكم وتداول السلطة، وإقرار مبدأ المواطنة وكلها أيضا كانت بناءة، بدءا من وثيقة البرادعي وانتهاء بوثيقة الأزهر، ومع ذلك فإنها كلها لم تسفر عن تحقيق الحد الأدنى من التوافق، رغم أن جميع الأطراف تتحدث ولا تزال عن حرصها الشديد على الوصول إلى هذا التوافق. فإذا افترضنا وللافتراض ما يبرره أن طرفا مهما كان يخشى من أن تصادر أية صيغة للتوافق مقدما على فرصته الانتخابية الكاملة، ونقصد تحديدا حزب الحرية والعدالة الممثل لجماعة الإخوان المسلمين، ثم حزب النور السلفي نقول إذا افترضنا ذلك، فإن هذا المانع الانتخابي قد زال الآن، إلا إذا كان حزب الحرية والعدالة ليس حريصا على التوافق بما يكفي للتغلب على أية نزعة للانفراد والهيمنة استنادا إلى الأغلبية البرلمانية، لكن هذا الافتراض الأخير يدخل في باب التكهنات أو التوجسات مادام كل زعماء الحزب يؤكدون في كل مناسبة أن عقيدتهم السياسية تستبعد الإقصاء، وترفض تكرار تجربة الحزب الوطني البائد، وأنهم سيعملون في إطار التحالف الديمقراطي الذي أقاموه مع أحزاب وشخصيات تنتمي إلى التيارات السياسية غير الدينية، وفوق ذلك فإنهم يعترفون علنا أن مصر ينبغي ألا يحكمها تيار واحد، وأن الحكومة القادمة يتحتم أن تكون ائتلافية، ومن باب أولى فإن الدستور ينبغي ألا تنفرد قوة سياسية واحدة بوضعه مهما تبلغ أغلبيتها البرلمانية من قوة عددية، ومن قبل ذلك فقد تعهدت جماعة الإخوان المسلمين بعدم المنافسة على منصب رئيس الجمهورية من باب تأكيد التعددية على قمة السلطة. خلاصة هذه النقطة إذن أن هناك فرصة أخرى وأخيرة لتحقيق التوافق الوطني بعد الانتخابات، مادامت الحسابات الانتخابية حالت دون تحقيقه قبلها، والآن فإن هناك اتجاها قويا داخل المجلس الاستشاري لطرح مبادرة جديدة للتوافق، وقد تحدث عنها السيد منصور حسن رئيس المجلس علنا، وكان أول حديث له عنها في الأهرام يوم 25 ديسمبر الحالي وكانت نقطة البدء في هذه المبادرة ومازالت هي احترام نتائج الانتخابات والالتزام بالإعلان الدستوري، لا سيما حق البرلمان في اختيار أعضاء لجنة وضع الدستور. ومن المتوقع أن تبدأ في أية لحظة اتصالات بين لجنة من المجلس الاستشاري وبين جميع القوى السياسية المصرية الممثلة في مجلس الشعب الجديد، ولو بمقعد واحد لتنظيم حوار وطني شامل بعيدا عن الصخب الإعلامي، على أن يكون الهدف الرئيسي لهذا الحوار هو التوافق، أملا في أن تسري روح التوافق على كل القضايا المختلف عليها، ومنها تشكيل اللجنة التأسيسية التي سيعهد إليها بمهمة وضع الدستور، وذلك دون انتهاك للنص الوارد في الإعلان الدستوري الذي يقصر حق اختيار أعضاء هذه اللجنة على البرلمان وحده. في ضوء هذا المسعى الجديد لإحياء فكرة التوافق الوطني، وجهت سؤالا مباشرا إلى الدكتور عصام العريان نائب رئيس حزب الحرية والعدالة حول موقف الحزب من أية مبادرة جديدة محتملة لتحقيق هذا التوافق الذي تعذر الوصول إليه قبل انتخابات مجلس الشعب، وطبقا لإجاباته فإن الحزب يرحب بأية مبادرة تسعى إلى هذا الهدف، وهو يعتقد أن المهمة ليست صعبة، إذ يوجد أساس قوي يمكن البناء عليه حسب رأيه، فالأبواب الأربعة الأولى من دستور 1971 لا خلاف عليها بين غالبية القوى السياسية في البلاد، وهي الأبواب التي تحدد هوية الدولة، وتنظم الحريات والحقوق العامة بما في ذلك بالطبع المادة الثانية التي تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، والمادة التي تقر مبدأ المواطنة كأساس للمساواة بين جميع المواطنين على اختلاف عقائدهم الدينية في الحقوق والواجبات. أما الباب الخامس الذي يتناول نظام الحكم في الدولة، فإن حزب الحرية والعدالة يعتقد أن التوافق عليه ممكن، لأن الحزب لا يطالب بالنظام البرلماني الذي يضع كل السلطات في يد رئيس الحكومة، ويجرد رئيس الجمهورية من كل السلطات التنفيذية الحقيقية، إذ لا يتفق هذا الوضع مع النص الدستوري على أن يكون الرئيس منتخبا انتخابا مباشرا من الشعب، فكيف يكون الرئيس منتخبا من الشعب كله، ولا يتمتع بسلطات أصيلة؟ وماذا عن القضايا التي اختلف معها حزب الحرية والعدالة في وثيقة السلمي اختلافا حادا بلغ حد تنظيم مليونية خصيصا تحت اسم جمعة الإرادة الشعبية لإسقاط هذه الوثيقة التي كانت تهدف إلى تحقيق التوافق الوطني؟ في رأي الدكتور عصام العريان نائب الحزب أن السبب الأول للخلاف كان يدور حول المادتين التاسعة والعاشرة في الوثيقة، وهاتان المادتان كما نذكر كانتا متعلقتين بالقوات المسلحة، ويرى الحزب أن التوافق هنا ممكن أيضا بحيث تحترم خصوصية المؤسسة العسكرية، دون الإخلال بمبدأ وحدة الميزانية العامة، ودون أن يكون لهذه المؤسسة وضع الدولة داخل الدولة أو وضع فوق الدستور. هنا تحديدا يستحسن أن نتذكر أن الدكتور علي السلمي نائب رئيس الوزراء في الحكومة السابقة الذي عرفت الوثيقة باسمه كان قد أدخل عليها تعديلات جوهرية فيما يتعلق بالقوات المسلحة، لكن حزب الحرية والعدالة ومعه حزب النور السلفي تشبثا بموقف الرفض المطلق، وهذا يعيدنا إلى افتراض أن الحسابات الانتخابية كانت من أسباب تعثر جهود التوافق الوطني حرصا من الحزبين على عدم الالتزام مقدما بتعهدات قد تقلل من عدد مقاعدهما في البرلمان. أما السبب الثاني الذي اختلف حزب الحرية والعدالة وحزب النور من أجلها مع وثيقة السلمي، فكان تحديد حصص لعضوية اللجنة التأسيسية التي ستضع الدستور، فهل تكون هذه النقطة هي السبب مجددا في تبديد الفرصة الأخيرة للتوافق الوطني؟ من حيث المبدأ يقبل الدكتور عصام العريان أن تكون اللجنة توافقية، ولكنه يشترط ألا تكون المحاصصة أساس هذا التوافق، سواء كانت محاصصة حزبية أو غير ذلك، فكيف إذن سيتم هذا التوافق؟ ربما يصل الحوار إلى صيغة للتوافق دون محاصصة، لكن المهم الآن أن يبدأ الحوار، وأن تنضم إليه كل الأطراف بنية صادقة.. وإذا كنا فيما سبق من سطور قد ركزنا على حزب الحرية والعدالة، فذلك لأنه أصبح الآن حزب الأغلبية البرلمانية إلا أن معنى التوافق هو مشاركة الجميع، ولذلك فإن مبادرة المجلس الاستشاري تتوجه إلى كل الأطراف، وحسب ما هو متوقع فإن لجنة الاتصال بالمجلس سوف تعد إعدادا جيدا للحوار، وسوف تعقد أولا لقاءات منفردة مع كل حزب أو تيار بما في ذلك الائتلافات الشبابية تمهيدا للحوار الشامل ومع أنه لا أحد يضمن النجاح هذه المرة أيضا، فهذه في الغالب الفرصة الأخيرة للوصول إلى توافق وطني تحدث الجميع عنه كثيرا، ولم يتحقق منه شيء يذكر. نقلا عن جريدة الأهرام