الفريق أول عبد المجيد صقر يلتقى وزير دفاع جمهورية إيطاليا    أول فيديو عن استعدادات السفارة المصرية لاستقبال الناخبين    وزير الأوقاف: مبادرة "صحح مفاهيمك" مشروع وطني شامل في مواجهة التطرف والإرهاب    سعر الدينار الكويتى أمام الجنيه اليوم الخميس 31 يوليو 2025    سعر الدولار اليوم الخميس 31 يوليو 2025    محور 26 يوليو «يتنفس» بعد سنوات من «الاختناق» المرورى    أسعار الفراخ في البورصة اليوم الخميس 31 يوليو    موعد مباراة آرسنال وتوتنهام الودية استعدادًا للموسم الجديد 2025-2026    عزام يجتمع بجهاز منتخب مصر لمناقشة ترتيبات معسكر سبتمبر.. وحسم الوديات    شوبير يكشف تفاصيل حديثه مع إمام عاشور بشأن تجديد عقده مع الأهلي    مصرع ربة منزل بطلقات نارية في ظروف غامضة بقنا    هل تظلم الطالب على نتيجة الثانوية العامة يخفض درجاته.. التعليم توضح    «كايلا» ابنة دنيا سمير غانم تخطف الأنظار في العرض الخاص ل«روكي الغلابة»    فريق عمل "Just You" ثالث حكايات "ما تراه ليس كما يبدو" يحتفل بانتهاء التصوير    النتيجة ليست نهاية المطاف.. 5 نصائح للطلاب من وزارة الأوقاف    الكشف على 889 مواطنًا خلال قافلة طبية مجانية بقرية الأمل بالبحيرة    مليون خدمة طبية خلال أسبوعين خلال حملة 100 يوم صحة    حسين الجسمي يطرح "الحنين" و"في وقت قياسي"    تحرير 168 مخالفة تموينية بمركز مغاغة وضبط 2.5 طن سكر مدعّم قبل بيعه في السوق السوداء    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر ويؤكد: المهم هو التحصن لا معرفة من قام به    وزير الخارجية يلتقي السيناتور "تيد كروز" عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي    ضبط 276 عاملا أجنبيا بدون ترخيص في منشآت بمحافظة البحر الأحمر    انخفاض حاد في أرباح بي إم دبليو خلال النصف الأول من 2025    موعد مباراة آرسنال وتوتنهام والقنوات الناقلة    المهرجان القومي للمسرح يكرّم الناقدين أحمد هاشم ويوسف مسلم    أخبار مصر: قرار ضد ابنة مبارك المزيفة، العناية الإلهية تنقذ ركاب قطار بالغربية، انخفاض الذهب، مفاجأة صفقات الزمالك دون كشف طبي    طقس اليوم الخميس 31-7-2025.. انخفاض درجات الحرارة واضطراب بالملاحة    دون إصابات.. خروج قطار عن القضبان بعد الاصطدام برصيف محطة السنطة بالغربية    روسيا تعلن السيطرة على بلدة شازوف يار شرقي أوكرانيا    عقب زلزال روسيا | تسونامي يضرب السواحل وتحذيرات تجتاح المحيط الهادئ.. خبير روسي: زلزال كامتشاتكا الأقوى على الإطلاق..إجلاءات وإنذارات في أمريكا وآسيا.. وترامب يحث الأمريكيين على توخي الحذر بعد الزلزال    اليوم.. المصري يلاقي هلال مساكن في ختام مبارياته الودية بمعسكر تونس    ملعب الإسكندرية يتحول إلى منصة فنية ضمن فعاليات "صيف الأوبرا 2025"    هاريس ستدلي بشهادتها في الكونجرس بشأن الحالة العقلية لبايدن والعفو عن 2500 شخص    فورد تتوقع خسائر بقيمة ملياري دولار هذا العام نتيجة رسوم ترامب    20 شاحنة مساعدات إماراتية تستعد للدخول إلى غزة    إصابة 4 أشخاص في حادث انقلاب سيارة بشمال سيناء    معتقل من ذوي الهمم يقود "الإخوان".. داخلية السيسي تقتل فريد شلبي المعلم بالأزهر بمقر أمني بكفر الشيخ    قناة السويس حكاية وطن l حُفرت بأيادٍ مصرية وسُرقت ب«امتياز فرنسى»    "ابن العبري".. راهب عبر العصور وخلّد اسمه في اللاهوت والفلسفة والطب    بدء تقديم كلية الشرطة 2025 اليوم «أون لاين» (تفاصيل)    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    طريقة عمل سلطة الفتوش على الطريقة الأصلية    بسبب خلافات الجيرة في سوهاج.. مصرع شخصين بين أبناء العمومة    اتحاد الدواجن يكشف سبب انخفاض الأسعار خلال الساعات الأخيرة    بعد الزلزال.. الحيتان تجنح ل شواطئ اليابان قبل وصول التسونامي (فيديو)    «حملة ممنهجة».. ترامب يقرر فرض رسومًا جمركية بنسبة 50% على هذه الدولة (تفاصيل)    موعد مباراة الزمالك اليوم وغزل المحلة الودية.. هل توجد قنوات ناقلة لها؟    أبرزها زيادة تعويضات مخاطر المهن الطبية ل150 ألف.. الحكومة توافق على مجموعة قرارات خلال اجتماعها الأسبوعي    المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن إلغاء ندوة الفنان محيي إسماعيل لعدم التزامه بالموعد المحدد    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    «الصفقات مبتعملش كشف طبي».. طبيب الزمالك السابق يكشف أسرارًا نارية بعد رحيله    أول تصريحات ل اللواء محمد حامد هشام مدير أمن قنا الجديد    لحماية الكلى من الإرهاق.. أهم المشروبات المنعشة للمرضى في الصيف    ختام منافسات اليوم الأول بالبطولة الأفريقية للبوتشيا المؤهلة لكأس العالم 2026    إغلاق جزئى لمزرعة سمكية مخالفة بقرية أم مشاق بالقصاصين فى الإسماعيلية    أسباب عين السمكة وأعراضها وطرق التخلص منها    ما حكم الخمر إذا تحولت إلى خل؟.. أمين الفتوى يوضح    ما المقصود ببيع المال بالمال؟.. أمين الفتوى يُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثروات صاحبها غائب
نشر في اليوم السابع يوم 26 - 12 - 2008

ظهور قراصنة البحر وتزاحم الأساطيل وقرارات مجلس الأمن الدولى قادنا إلى فتح ملف الصومال، والصومال مدخل إلى أفريقيا، وأفريقيا أصبح لها رمز معاصر هو نيلسون مانديلا، هو فى نضاله لم يعبر فقط عن قضية الأغلبية السوداء فى جنوب أفريقيا، وإنما عبر أيضا عن جوهر عملية المواجهة بين قارة بكاملها وكل أقوياء الغابة الدولية الذين تكالبوا عليها احتلالا لها ونهبا لثرواتها.
فى نضاله من أجل الحرية قضى نيلسون مانديلا 27 سنة فى السجن، وحينما بدأ النضال الوطنى فى جنوب أفريقيا يثمر أخيرا، جرى الإفراج عن مانديلا ليصبح أول مواطن من أصحاب الأرض يتم انتخابه رئيسا للدولة، وفى جولته الأولى خارج وطنه كان طبيعيا أن يقوم مانديلا بزيارة القاهرة. فى جدول الزيارة المقترح على مانديلا من مصر طلب الرجل إضافتين: الأولى هى أن يقوم بزيارة ضريح الزعيم الراحل جمال عبدالناصر وفاء لدعم أعطاه للحركة الوطنية فى جنوب إفريقيا، فى وقت كانت أمريكا ومعظم دول الغرب تعتبرها حركة إرهابية، حتى الكونجرس الأمريكى أصدر قرارا باعتبار مانديلا ورفاقه إرهابيين تمنع أمريكا دخولهم إليها.
أما الإضافة الثانية التى طلبها مانديلا فى برنامج زيارته إلى القاهرة فكانت طلبا محددا: أن يستقبل السيد/ محمد فائق الوزير السابق ومسئول الملف الأفريقى طوال سنوات حكم جمال عبدالناصر.. وبتلك الصفة الأخيرة عرف فائق كل قادة حركات التحرير فى دول أفريقيا.. وهم عرفوه.
فى اجتماع مانديلا بمحمد فائق بادره قائلا: يا مستر فائق لم يكن ممكنا أن آتى إلى القاهرة بغير أن أقابلك.. أولا للشكر وثانيا للاعتذار. فأما الشكر فمفهوم. القاهرة آمنت بمانديلا وقضيته فى وقت كان أقوياء الغابة الدولية يرفضون القضية وأصحابها. لكن: الاعتذار.. عن ماذا؟
قال مانديلا ضاحكا: أريد أن أعتذر لك عن عدم عودتى إلى القاهرة فى موعد اتفقنا عليه قبل 28 سنة.. هل تذكر؟ بالطبع محمد فائق يذكر.. ففى سنة 1961 جاء مانديلا إلى القاهرة سرا، فكل تحركاته داخل وخارج جنوب أفريقيا كانت سرية بالطبع لأن سلطات الحكم العنصرى هناك كانت تطارده هو ورفاقه، ولأن القاهرة فى وقتها كانت تحتضن حركات التحرير الأفريقية الجادة فلم يكن مناضل أفريقى يؤخذ داخل بلاده بجدية إلا إذا كانت تدعمه مصر. من هنا أقامت كل حركات التحرير الأفريقية تلك مكاتب دائمة لها فى القاهرة. والقاهرة بدورها كانت تقدم لهم الدعم المادى والمعنوى.. وأهمه تلك المحطات الإذاعية الموجهة من القاهرة بكل اللغات الأفريقية الرئيسية، زائد أربع لغات أوروبية.
اندهش محمد فائق مبدئيا من ذاكرة مانديلا الدقيقة. لكنه اندهش أكثر حينما أضاف مانديلا: يومها (قبل 28 سنة) جئت أقابلك فوجدت «عبدالرحمن بابو» خارجا لتوه من عندك.. فاكر؟
بالطبع محمد فائق يتذكر أن «عبدالرحمن بابو» كان من قادة النضال الوطنى فى زنجبار وأصبح فيما بعد رئيسا للدولة الموحدة تنزانيا. والآن يتسامر الصديقان القديمان معا - مانديلا ومحمد فائق - لأن فائق استجاب يومها (قبل 28 سنة) لكل ما طلبه مانديلا ما عدا الموعد الذى يرجوه لمقابلة الرئيس جمال عبدالناصر. وقتها كان الزعيم اليوغوسلافى فى زيارة رسمية لمصر وعبدالناصر مشغول معه. لكن مادام مانديلا مضطراً لبدء عودته السرية إلى بلاده فى اليوم التالى مباشرة فإن محمد فائق يعده بتدبير مقابلته المرجوة مع الرئيس عبدالناصر فى زيارته التالية، حيث قرر مانديلا أنه سيجىء إلى القاهرة لهذا الغرض بعد أسبوعين.
لكن مانديلا لم يعد إلى القاهرة.. لا بعد أسبوعين ولا بعد سنتين، لأنه فى عودته السرية إلى بلاده نجحت سلطات الحكم العنصرى هناك فى إلقاء القبض عليه ليصبح سجينا لمدة 27 سنةأ بغير أن ينسى للحظة واحدة فى زمن انتصاره وانتصار قضيته أن يعبر عن وفائه للعاصمة التى ساندته - القاهرة - وللشخص الذى كان فى حينها ولوقت طويل هو الوجه المصرى الذى يعرفه مناضلو أفريقيا.
فى وقتها كان هناك إقبال أفريقى على مصر استلهاما لنضالها المعلن إقليميا ودوليا. وكان هناك إقبال مصرى على أفريقيا بعد أن أصبح هذا جزءا من أمن مصر ومصالحها. ونجاح مصر مثلا فى تأميم شركة قناة السويس كان ملهما لشعوب عديدة لأنه جاء على الوجيعة.
فمن أمريكا اللاتينية إلى آسيا إلى أفريقيا كانت الشركات الأجنبية تسيطر بالكامل على الاقتصاد الوطنى فى كل دولة. وأحيانا كانت تقوم بالمهمة شركة واحدة. فى حالة زامبيا مثلا، حصلت على الاستقلال لكى يكتشف كينيث كاوندا رئيس الدولة وبطل استقلالها أن الإنجليز مايزالون المتحكمين فعليا فى صادرات زامبيا من النحاس. فى نفس الوقت كانت مصر تشترى احتياجاتها من النحاس الذى تنتجه زامبيا بستة ملايين جنيه استرلينى سنويا، ولكنها تحصل عليه وتشتريه من أسواق لندن، فتصبح الأرباح الخيالية من نصيب الإنجليز طبعا.
وفى زيارات كاوندا إلى القاهرة قبل الاستقلال لاحظ مفاوضوه المصريون أنه يكرر رغبته فى دراسة عملية تأميم قناة السويس وما هى المشاكل التى واجهتها مصر وكيف تغلبت عليها. ثم عاد كاوندا يلح على نفس الموضوع فى زيارته الأولى لمصر بعد استقلال بلاده. فى تلك المرة أفصح عن السبب.
فاقتصاد بلاده يعتمد على استخراج وتصدير النحاس والشركات المحتكرة لكل عمليات التعدين والتصدير هى أجنبية، وبالذات بريطانية. من هنا لم تسمح بريطانيا باستقلال زامبيا إلا بعد ربطها باتفاقيات تلزمها باستمرار الحال على ما هو عليه.. على ما فيه من إجحاف.
وفى استقبال جمال عبدالناصر لكاوندا رئيس زامبيا صارحه الأخير بأنه يستلهم نجاح مصر فى تأميم قناة السويس لأنه يفكر فى إعلان تأميم شركات تعدين النحاس فى زامبيا.. يومها - وحسب ما نشره محمد فائق - فوجئ كاوندا بأن عبدالناصر يرد عليه قائلا: «إذا كان لى أن أنصح، فأعتقد أنه من الخطأ أن تقدم على عمليات التأميم الآن وخاصة لمناجم النحاس. فيجب أن يتوفر لديك أولا الفنيون والخبراء الوطنيون اللازمون لتشغيل المشروعات المؤممة، أو على الأقل تكون لهم نفس القدرة على السيطرة الفنية والإدارية حتى يتمكنوا من تشغيلها بنفس الكفاءة. ومن الواضح أن هذا يحتاج إلى بعض الوقت.. حتى تتمكن من ترتيب البيت الداخلى ومقاومة نفوذ وأطماع جنوب أفريقيا، وإلى أن تتمكن من إقامة الجسور بينك وبين دول أخرى فى العالم كله».
يومها لم يخف كاوندا دهشته من أن يسمع تلك النصيحة من الرجل الذى كان الإنجليز يعتبرونه عدوهم الأول. ثم يضيف محمد فائق: «كان عبدالناصر يريد لكاوندا أن يستعد جيدا قبل أن يقدم على عملية التأميم حتى لا يتأثر إنتاج النحاس. وكان ذلك بعد استقلال زامبيا بشهور قليلة. وفى عام 1968 ذكرنى الرئيس كاوندا بهذا الحديث عندما التقيت به فى أديس أبابا أثناء مؤتمر القمة الأفريقى. وكان كاوندا قد أعلن لتوه عن تأميم 51 بالمائة من أسهم النحاس فى زامبيا». فى تلك المرة نجح التأميم لأنه كان مدروسا، ولأن تلك كانت أيضا العبرة الأولى من نجاح تأميم قناة السويس.
ذكرت من قبل أن السياسة الخارجية المصرية أصبح لها بعد أفريقى منذ وقت مبكر بعد سنة 1952. وفى سنة 1955 مثلا جرى إنشاء «الرابطة الأفريقية» فى القاهرة كجمعية لها نشاط سياسى وثقافى. كذلك أنشأت مصر إذاعة «صوت أفريقيا» الموجهة إلى كينيا وكل الشعوب الناطقة باللغة السواحيلية. ثم تتابعت الإذاعات والبرامج الموجهة من القاهرة إلى كل دول أفريقيا تحت الاحتلال وبلغاتها المحلية (أكثر من 12 لغة) بخلاف اللغات المستخدمة رسميا فى مناطق أفريقيا، وهى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية والعربية.
ومع أن سلطات الاحتلال الأوروبى فى دول أفريقيا كانت تمنع مواطنى كل دولة من الذهاب إلى مصر ولو فى زيارة عابرة إلا أن قادة حركات التحرير الأفريقية اعتبروا مجيئهم إلى مصر جزءا من نشاطهم السرى بحيث أنه «لم يحدث أن قامت حركة ثورية تحريرية فى أفريقيا بعد عام 1952 إلا كان لها اتصال بالقاهرة وأيدها عبدالناصر ووقف معها».
لم تكن مصر دولة عظمى ولا غنية لكى تباشر هذا كله. لكنها دولة كبرى إقليميا وقادرة وطنيا على أن تساهم بما تستطيعه من تدريب ودعم للقادة الجادين فى النضال من أجل الاستقلال. كل هذا كاستثمار مصرى من أجل المستقبل.
هذا يعنى أن السياسة فى نهاية المطاف هى حسن إدارة مصالح الناس والاستعداد للمستقبل قبل وصوله. وجزء من مصالح مصر وقتها هو أن تفتح أسواقا لمنتجاتها الصناعية والزراعية فى أفريقيا، خصوصا فى وجود خطة جادة للتنمية فى مصر اعتبرت فى حينها نموذجا للدول النامية. لكن مصر سرعان ما واجهتها صعوبات عملية.
الصعوبة الأولى هى أن الدول الاستعمارية السابقة أرغمت دول أفريقيا على الارتباط بها عضويا فى مجال التجارة. فإذا جاءت مصر الآن لتتاجر مع دول غرب أفريقيا مثلا يصبح على تلك التجارة المصرية أن تتجه أولا إلى الموانئ الأوروبية شمالا ومن هناك يعاد شحنها جنوبا إلى غرب أفريقيا. هذا يضاعف تكاليف النقل وبالتالى يقلل من تنافسية السلع المصرية.
هناك أيضا عدم وجود خبرات مصرية سابقة بالأسواق الأفريقية. فمثلا.. للأفارقة أذواق خاصة فى المنسوجات وألوانها. هذا اقتضى تجهيز وحدات خاصة لطباعة المنسوجات فى مصانع مصرية تكون مخصصة للتصدير إلى أفريقيا.
هناك ثالثا ضعف النظام البنكى فى معظم دول أفريقيا المستقلة لتوها. هذا يسلتزم وجود أساليب خاصة فى تصدير السلع المصرية إلى أفريقيا تعتمد على البدء أولا ببناء أو تأجير معارض ومخازن متسعة فى الدول الأفريقية لكى ترد إليها السلع المصرية بصفتها «بضاعة حاضرة».
لتلك الأسباب، وغيرها كثير، أقامت مصر شركة قطاع عام باسم «شركة النصر للاستيراد والتصدير» بهدف التركيز على الأسواق الأفريقية لحساب الإنتاج المصرى بمجموعه.. سواء من القطاع العام أو الخاص.
من الصفر إذن بدأت مصر تفتح الأسواق الأفريقية أمام إنتاجها الوطنى وفى مواجهة منافسة مفتوحة وشرسة مع منتجات أوروبية اعتادت احتكار الأسواق الأفريقية. وبحلول سنة 1967 كانت «شركة النصر للاستيراد والتصدير» قد أصبح لها 35 فرعا من بينها 28 فرعا فى دول أفريقيا. وبلغ عدد موظفيها وخبرائها أكثر من 3600، كما أصبحت تستخدم 13 سفينة شحن أكثر من نصفها تزيد حمولتها على ستة آلاف طن.
هكذا بدأت مصر تصدر إلى أسواق أفريقيا لأول مرة الثلاجات والأقمشة وإطارات وبطاريات السيارات والأدوية والأغذية المعلبة والدراجات والأثاثات المعدنية وأجهزة التكييف والجرارات الزراعية و.. و.. و.. كلما نجحت السلع المصرية فى كسب المنافسة سعرا وجودة كان يزداد إقبال الأفارقة عليها، هذا بدوره جعل مصر تفوز بعقود مقاولات لإنشاء طرق وتطهير موانئ وإقامة فنادق ومطارات ماتزال قائمة حتى الآن فى عواصم أفريقيا شاهدة على بعد نظر وجدوى الاستثمار المصرى المبكر فى تحرير أفريقيا، وأصبح كل عشرة ملايين دولار تحصل عليها مصر ثمنا لصفقة صادرات من إنتاجها الوطنى تعنى ثلاثة آلاف فرصة عمل إضافية للشباب داخل مصر من خلال التوسع فى الصناعات والزراعات القائمة.. بغير أن نتكلم عن آلاف المدرسين والمهندسين والأطباء ومبعوثى الأزهر الذين أصبحت دول أفريقيا تطلبهم رسميا من مصر بعقود مجزية، وأصبحت شركة مصرية واحدة - هى شركة النصر للاستيراد والتصدير - تمتلك.. وأكرر: تمتلك وليس تستأجر.. عمارات ومعارض ومخازن ضخمة للبضائع فى السنغال وجمهورية أفريقيا الوسطى والكاميرون والكونغو برازفيل والكونغو الديمقراطية ونيجيريا وغانا وكل دول البحيرات العظمى و.. و..
ثم جرى لنا وبنا شىء ما.. منذ سنوات، شىء فادح جعلنا ننسى أفريقيا وننسحب من أسواقها ونتخلى عن خبرائنا فيها ونهمل فى ممتلكاتنا بها وقيمتها تتجاوز عشرات وعشرات الملايين من الدولارات، لم نعد نسمع عن شركة النصر للاستيراد والتصدير، لم نعد نسمع عن تجارة مصرية مع أفريقيا، لم نعد نسمع عن أفريقيا من أصله.
وذات يوم قبل ثلاث سنوات «الأهرام: الثلاثاء 17/5/2005» لفت نظرى رسالة صحفية مدهشة بعث بها يحيى غانم، وهو من أكفأ المراسلين الصحفيين المصريين، رسالة من جنوب أفريقيا لتنشر فى القاهرة.
الرسالة تسجل بعمق وتوثيق ومرارة بعض ممتلكات مصر فى دول أفريقيا وقد أصبحت مهجورة ومنسية وبلا حراسة كما لو لم يكن لها صاحب بالمرة، ممتلكات يعطى يحيى غانم نماذج منها مقررا أنها بمئات الملايين من الدولارات فى أهم المواقع والدول، بما فى ذلك مبان ضخمة لم يعد ينقصها سوى التشطيب.. ناقلا عن دبلوماسى غربى استغرابه الشديد من أن تلك الأصول التى تمتلكها مصر فى دول أفريقيا «نادرا ما تتوافر لدولة عظمى» على حد تعبيره.
بعدها بأسبوعين قرأت فى صحيفة أخرى حوارا مع مستشار وزير التجارة الخارجية «رشيد محمد رشيد» للشئون الأفريقية عناوينه الرئيسية هى «لدينا ممتلكات بملايين الدولارات فى أفريقيا غير مستثمرة.. يمكننا غزو السوق الأفريقية بالحاصلات الزراعية والدواء ومواد البناء».
لكن شيئا من هذا لم يحدث، بل ولم نسمع عن هذا المستشار مرة أخرى، هل لأن الحكومة المصرية تكره القطاع العام؟ أو التجارة مع أفريقيا، أو الرزق الحلال المتاح فى الجنوب بدل الاستجداء غير المجدى فى الشمال؟.
ومع وجود كل هذا الإهمال الحكومى لأفريقيا بلغت قيمة الصادرات المصرية إلى دول أفريقيا 163 مليون دولار فى سنة 2003 - آخر رقم متاح- الرقم ليس متواضعا، بالنظر إلى أنه لم تعد لدينا شركة متخصصة فى التجارة مع أفريقيا، ولا أسطول من سفن الشحن نتعامل به مع أفريقيا، ولا أصبح لصناعاتنا وزراعاتنا موطئ قدم فى أفريقيا.
هذا يجرى بالضبط فى الوقت الذى تجىء فيه الدول من أطراف العالم لتتاجر مع أفريقيا، الصين مثلا تكسب الآن فى أفريقيا تجاريا أكثر من عشرة بلايين دولار سنويا، الصين قبل عشرين سنة لم تكن تعرف الطريق إلى أفريقيا أصلا ولا كانت تتواجد فى أى من دولها بسفارة أو قنصلية واحدة، كانت مصر هى التى تعرف وهى التى تسبق وهى التى تمارس سياسة النفس الطويل فى التجارة مع أفريقيا.
الآن مصر هى التى انقطع نفسها، والصين هى التى تستنسخ فى أفريقيا بالضبط نفس المفهوم الذى مارسته مصر قبل نصف قرن، مسئولو الصين كل يوم فى دول أفريقيا تعظيما لمصالح بلدهم، بينما وزراء مصر ورجال أعمالها فى بعثات إلى أمريكا يسمونها بعثات «طرق الأبواب» لا الأبواب انفتحت ولا مسئولونا تعلموا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.