ما أن دخلت بيته الجديد حتى أمسك بى سعيد الكفراوى وقال لى: «تعالى معايا»، مشيت معه مستسلمًا، معتقدًا أنه يريد أن يحدثنى فى موضوع، إلى أن وجدت نفسى أمام غرفة مغلقة يحاول الكفراوى فتحها وهو يقول لى «خش بوس عمك إبراهيم»، هو يعرف ما بيننا من حدائق، ويعتقد أننى قوى للدرجة التى يمكن معها أن أقبل إبراهيم أصلان بعد أن صعدت روحه إلى خالقها، شعرت بخوف حقيقى وبرد إضافى، وهربت أبحث عن تفاصيل أتحدث فيها مع هشام وشادى ومجدى أحمد على وشعبان يوسف وزين خيرى شلبى الذين كانوا موجودين فور علمهم بالخبر، لم يتأخر، ولحق بأعمامى خيرى شلبى وعفيفى مطر وحجازى الرسام ويسرى خميس، وتركوا إحساسًا غامضًا ووحشة من الصعب التعبير عنها، لم يكن أصلان بالنسبة لى الكاتب الكبير المختلف فقط، ولكنه كان الصديق الذى التقيته منذ منتصف الثمانينيات بعيدًا أو قريبًا من الفعاليات الثقافية، أناقته الروحية وبساطته وعمقه وموهبته وثقافته النوعية وانحيازه للكتابة الجديدة وشبابها هى التى صنعت منه هذا الشخص الساحر الذى تتهلل الوجوه عندما يهل، عاش يعتبر الكتابة هواية، وكان يؤمن بأن الحياة هى المصدر الأول للمعرفة، وأن الكاتب العظيم هو الذى يكتب بما يعرفه وليس الذى يكتب ما يعرفه، كان ينتمى إلى المياه الجوفية للوجدان، وكان يحلو له أن يقول إنه ينتمى إلى القنوات الأرضية التى يشاهدها أناس لا تشغلهم القضايا الكبرى التى صنعت نجومًا فى الفضاء لا يشبهون ولا يعبرون عن الناس، كانت السياسة بالنسبة له عملاً أدنى من عمل المبدع، ومع هذا كان يعمل فى السياسة على طريقته هو، هو منحاز للحكايات التى تجعل لوجودنا معًا معنى، وأن الناس ليسوا فى حاجة إلى من يفكر نيابة عنهم، ولذلك كان ينظر إلى بعض الظواهر الإعلامية على أنها شخصيات كرتونية، عندما قال لى محمد كشيك قبل أكثر من ربع قرن «إبراهيم أصلان عايز يشوفك» لم أصدق أننى سألتقى كاتب القصة الذى يعتبره الشعراء واحدًا منهم ويعتبره السينمائيون واحدًا منهم، وأيضًا الموسيقيون وأولاد البلد، كان لا يزال يعمل فى هيئة البريد، التى تعلم فيها الاختزال والتقشف فى استخدام المفردات، كان مطلوبًا منه بحسه الإنسانى لا المهنى أن يعيد صياغة التلغراف، يأخذ الكلام من السيدة أو الرجل الذى يقف خلف الشباك ويحوله إلى رسالة قصيرة للغاية تفى بالمطلوب وتوفر لمرسلها «الفقير غالبًا» مزيدًا من المال، عملت معه ومع غالى شكرى فى مجلة الوطن العربى «قبل ذهابه للحياة» بعد تركه العمل سنة 1989، وعملت معه فى مجلة أدب ونقد بعد ذلك، حيث كان فى مجلس التحرير مع محمد روميش وعبلة الروينى وسيد البحراوى وكمال رمزى، وسافرت معه خارج مصر أربع رحلات، وداخل مصر «فى رأس سدر ومرسى مطروح» أكثر من ذلك، السفر مع إبراهيم أصلان يعنى البهجة فى المقام الأول، يعنى أنك مع أهلك الذين تحبهم، مع أصدقائك الذين تتمنى أن تسنح لك الفرصة لمقابلتهم بعيدًا لمدة أسبوع أو أسبوعين، والمشى معهم على البحر «أو النيل أو الخليج أو المحيط»، حتى لو كنتم فى الشتاء، سيتحدث إليك عن الموسيقى والسينما والرواية، عن عمارات جاردن سيتى وسكان الماضى، عن العذابات الصغيرة، عن العمارة والألوان والحيل المدهشة، عن كرة القدم «كان زملكاويّا غير شكاء»، عن الملاكمة وفلسفتها وأساطيرها المحليين والعالميين، عن الوراق وجيل الستينيات، عن الملابس الكاجوال والأحذية المستوردة، عن المجانين الذين قابلهم فى حياته، حكاياته الصغيرة تتحول دون أن يدرى إلى أساطير، فى مهاتفاته الليلية المحببة يسألك فى أشياء تبدو غريبة، كأن يقول لك مثلاً «هو مدحت الجيار قصر شوية ولا أنا متهيأ لى؟»، أو يسألك عن شخص لا تعرفه، وبعد موت خيرى شلبى كره التليفون الأرضى، وبدأ يسترسل على المحمول، لم أشاهد أصلان سعيدًا أكثر من تلك الليلة، ليلة 11 فبراير، أتى به مجدى أحمد على من المقطم، كان يمشى فى ميدان التحرير وفى عينيه لمعة طفولية آسرة، وكان خفيفًا لدرجة جعلتنا نخاف عليه، مات إبراهيم أصلان على الكرسى الهزاز الذى كان كبيرًا على شقة إمبابة، ولم يستغل فى شقة المقطم السابقة، وعندما اتسعت المساحة قليلاً فى الشقة «الإيجار الجديد» الجديدة، جلس عليه، وسافر، تمامًا كما رحل معظم أبطال قصصه، قصصه الشجية النافذة التى تشبهه فى أناقته وتحضره ورقته ونبله، سافر وأخذ معه شيئًا كبيرًا كان يجمع أصدقاءه المقربين، ولا نعرف كيف سنتصرف.. فى غيابه.