"أنا مش حروح ميدان التحرير أعيط عليك لو حصلك حاجة زى الأبهات اللى أعدين هناك، أنت عاوز توصل ليه ما هيا كدة كدة متنيلة أنت إلى حتعدلها يعنى"...... "أنت عاوز تقهر قلبى عليك لو حصلك حاجة مين اللى حينفعك، خدوا أيه اللى ماتوا حد فاكرهم، مفيش غير أمهاتهم أعدين بيتقهروا على عيالهم وهما بيقولوا عليهم بلطجية وصيع، عاوزنى زيهم" ليلة صاخبة أصبحت أعتاد عليها كلما فتح نقاش سياسى فى بيتنا، أو أبديت رغبة المشاركة فى المظاهرات أو الفعاليات السياسية، فأجبرت أن أكذب عليهم من يوم 25 حتى سقوط النظام، هم من أقنعتهم أنى تعرضت لحادث يوم 28 لأخفى تقطيع ملابسى وآثار الغاز والخرطوش، وأختى الصغيرة اللى كانت بتدارى عليا لما كنت أنزل فى عز الضرب، لدرجة أننى أًصبحت أتبنى آرائهم المسمسة من التلفزيون الرسمى حتى أقنعهم أنى أعدل عن الفكر الثورى. الأحد 20 نوفمبر 2011 صباح بارد يتثاقل فى الظهور، محمل بثقل يحمله ليلاً من دماء من سقطوا فى شارع محمد محمود، أستيقظ على صوت أبى الجهورى وهو يوقظ الجميع من أجل الفطار الذى يحضره دائماً (آخر مرة حصحى على صوته)، أمى تدخل الغرفة توقظنى وسط دلال لا يمكن أن تحصل عليه إلا من أمك (آخر مرة حتزغزغنى عشان أصحى)، أغسل وشى وأتوضأ لأصلى الصبح (آخر مرة حفرش السجادة القديمة لأصلى عليها) ورائحة الفطار الشهية تتغلغل إلى أنفى (آخر مرة حشمها) تلك الرائحة التى اعتدت أن استنشقها فى الأعياد وقبل الفطار فى رمضان، فلا طعام يفوق طعام أمى، جلسة الفطار تنويعة الأكل بين الفول والبسطرمة بالبيض والجبنة البيضة اللى بحبها (آخر مرة حاكل بسطرمة بالبيض)، بدأت أهم فى لبس ملابسى استعداداً للخروج فأنا أعرف وجهتى اليوم جيداً فهى ميدان التحرير، أمى تصرخ فيا عشان أوضتى اللى مكركبة وهدومى اللى فى كل حتة (آخر مرة حتزعقلى)، موبيلى اللى بيرن على الصبح ليظهر عليه كلمة "حبيبتى" فهى من أعشق ومن أحببت، ومن حلمت بعائلة تجمعنى أنا وهى وأولادنا فى وطن يستحقه أبنائى، فقد اعتدت أن أسمع صوتها الملائكى كل يوم صباحاً (آخر مرة حسمع صوتها، حتوحشنى أوى)، تكلمنى فى دلال يفوق جمالها، تحذيراتها لى أن أقترب من وسط البلد عشان اللى بيحصل فهى تعرف كم أنا مجنون بالسياسة، وبالطبع كان لابد أن أضمها إلى قائمة من أكذب عليهم هذا اليوم فهى تخاف على مثل أمى، أختى تغادر المنزل فى طريقها إلى مدرستها، تعانقنى فهى محبوبتى اللى ربيتها على أيدى (آخر مرة ححضنها)، أخرج مصروفها لأعطيه لها وهى ترفضه كالعادة لكنها تأخذه وسط إصرارى (آخر مرة حديها مصروف)، يهم أبى لمغادرة المنزل قبلى لكن قلبه القلوق يمنعه من المغادرة قبل أن يلقى آخر تحذيراته أن أقترب من ميدان التحرير "تخلص شغل وترجع على طول، ملكش دعوة بالى بيحصل يابنى"، نظرات قلق ترتسم على وجهه الذى أًصبحت أشبه كثيرا، فيبدر منى ابتسامة ومقولة " متقلقش أنا حخلص واجى على طول" ( آخر مرة حشوفه)، أتوجه إلى باب المنزل القى نظراتى على المنزل ( آخر مرة حنزل منوا) اتلمس بأطراف أصابعى الترابيزة اللى اتربيت وأنا بذاكر عليها، والكرسى الى كنت بقرا عليه كتبى، الشوفونيرة الى بسرح قدامها شعرى كل يوم، تستوقفنى أمى لتحلفنى ألا أقترب مما يحدث، فأحلف "والله ما حروح انتوا مكبرين الموضوع كدة ليه"، ثم أبتسم نفس الابتسامة الكاذبة، فينفرج قلبها قليلاً لأقبل يدها (آخر مرة حبوس إيديها) وأغلق باب المنزل خلفى لأردد فى سرى "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، بسم الله عليه توكلت". أنزل الشارع متوتراً أحس كمن ذاهب إلى يوم دخلته فى عرسه، أصبح على عم أحمد ذلك الرجل العجوز الذى يرتسم الزمن على وجه، أركب الميكروباص، كلما اقتربنا من الميدان كلما تزايدت دقات قلبي، أسمع النقاش فى الميكروباص، الغالبية تسب وتلعن فى من هم فى التحرير " هما عاوزين أيه تانى ميهمدوا بقا منهم لله خربوا البلد، أنا لو من الجيش انزل ألمهم كلهم، دى عيال كلها صيع متأجرة حلال فيهم القتل عاوزين يقتحموا وزارة الداخلية، بيقولولك 20 ظابط مات من الخرطوش الى بيضربوه على الشرطة هناك" كلها تبريرات حيوانية لقتل الإنسانية، أقرر التزام الصمت انزل بعيداً عن ميدان التحرير، أمر على كوبرى قصر النيل، أتابع بنظرى ذلك الأسد الضخم الجاثم، الذى تملئ عينه الحزن فهو الوحيد العالم بحال أبنائه الذين يذبحون فى الميدان، أرى سحابة دخان أسود تلوح فوق الميدان من أثر القنابل التى لم تتوقف منذ الليل. انضم للميدان الأعلام مرفوعة التكبيرات تتعالى " الله أكبر على من طغى وتكبر" الموتوسيكلات تتسارع فى نقل المصابين من على خط النار، أحس بأن التحرير هو قلب الدنيا فى هذه الساعة، أقرر البقاء فى الخطوط الخلفية حتى أستكشف الحالة " أحس بحالة من الجبن التى أستحقر نفسى أنها راودتنى" ألمح المستشفى الميدانى، أقرر الانضمام لها، أساعد فى نقل المصابين، أستخدم خبرتى كطبيب فى محاولة تقليل الإصابات، الإصابات بالجملة، الأعين مفقوعة، الرصاص الخرطوش يخترق الجسم من يرى وهو يدخل المستشفى يظن انه قادم الآن من معركة حربية، الشباب يتوافدون تزداد الأعداد، أحس بأن النهار لم يشرق على ميدان التحرير فالظلمة التى تسببها القنابل تمنع النور أن يضىء الميدان، الضرب بدأ يقل، حالة من اللاوعى تنتاب كل من فى الميدان، المغرب يخيم على الميدان، الأمل فى أن يكون نهاية إراقة الدماء، لكننا لم نعلم أنه الهدوء الذى يسبق العاصفة، إطلاق نار من كل مكان، اقتحام الميدان أنباء عن إصابات بالجملة على خط النار أقرر أن اترك المستشفى وانضم لمن يواجهون قوات الأمن، أخرج فلا اعرف ماذا أفعل، أتناول طوبة فى يدى وأهم فى إلقائها على أحد الجنود، فأسمع إطلاق نار، يعقبه احساس بالألم، أسقط على الأرض يحاول من حولى إسعافى لكن كثافة إطلاق النار تمنعهم، أعينى تبحلق فى قوات الأمن التى تمر فوقى مطاردة المتظاهرين، اااه تنهيدة ألم، عدم قدرة على الحركة، صورة ابى وأمى وحبيبتي، تفكيرى " هل أنا كدة شهيد ؟؟؟، أنا ملحقتش أضرب ؟؟ "، الظلام يشتد، عينى تغلق، فيشع النور . كلما اشتقت إلى حياتى أزور ميدان التحرير فأرى رجل فى الخمسينات من عمره، يبدو من الهم أنه شاخ مما لاقاه، يحمل لوحه لصورة شاب كنت أراه كلما نظرت فى المرأة، أنه أبى لكن يبدوا أنه خالف وعده وذهب يبكى على فى الميدان . المجد لشهداء محمد محمود