"بأى حال عدت يا عيد"عبارة يرددها العمال الذين يفترشون رصيف مجلس الوزراء يوما تلو الآخر وغيره من أماكن التظاهر بمختلف المحافظات باختلاف قطاعات الأعمال التى يعملون بها، آملين أن يجدوا آذان صاغية لمطالبهم دون جدوى، متسائلين آذان المسئولون مؤصدة أم أبوابهم مغلقة، فعلى اختلاف طبيعة وأماكن عملهم إلا أن ما يجمع هؤلاء هو الفقر والشعور بالظلم والتهميش ، فثار العمال على أحوالهم المتردية خارجين من عباءة الصمت آبين أن يعيشوا حياة بلا حياة. وتراوحت اغلب مطالب العمال باختلاف عملهم مابين تحسين الأجور ومحاسبة الفاسدين والرعاية الصحية رافضين الأساليب التعسفية التى تتبعها الشركات لتجبر عمالها على ترك العمل فى ظل أجور نظام الخصخصة (ففى منتصف 2003 تقاعد أكثر من 400 ألف عامل وفقا لنظام المعاش المبكر) فضلا عن المماطلة فى صرف الرواتب التى لا تثمن ولا تغنى من جوع للعمال وإهدار حقوقهم ، فكم هى المعاناة التى يلاقيها هؤلاء المطحونون فى عملهم دون مقابل يتماشى مع ظروف المعيشة . وفى ظل هذه المصاعب التى أدت بهم أن يصبحوا عالة على آبائهم أو أبنائهم _على حد تعبيرهم _كيف يستقبل هؤلاء العيد وسط زحام الإضرابات والاعتصامات . فها هو عيد الأضحى المبارك ولا تزال الأوضاع المتردية تعصف بحياة العاملين، فالأعياد تمثل مصروفات إضافية بطبيعة الحال الأمر الذى يجعل هؤلاء العمال يعيشون فى حيرة وكأنهم بصوت واحد يتساءلون من أين نأتى بلحمة العيد والملابس الجديدة والعدية التى تعد عادة لا غنى عنها على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية، والسؤال هنا هل سيكون العيد هو منفذ العمال ليروحوا عن أنفسهم بعيدا عن متاعب الحياة أم سيحملهم هما على هم .تأتى الإجابة على لسان بعض العمال فمنهم من وجد فى العيد فرصته ليخرج من مشاكل العمل ويقض وقتا سعيدا مع أسرته راميا كل الهموم وراء ظهره ، ومنهم من حال الفقر دون أن يستمتعوا بأيام العيد حاملين هم اللحظة التى يردون فيها أيدى أطفالهم عندما يطلبون العدية. فبصوت حزين منكسر يصف لنا عم عبد العزيز محسن_54 سنة _مدى المأساة التى يعيشها هو وأولاده السبعة قائلا " استحى أن ارفع عينى فى زوجتى وأولادى بعد أن أصبحت زى قلتى وعالة عليهم ، مشيرا إلى أن ابنه الأكبر تولى الإنفاق على الأسرة بعد أن عجز هو عن سد احتياجاتهم، ومع حلول العيد يسعى عبد العزيز لدى كل من يعرفه ليدبر العدية لأطفاله الصغار، أما اللحمة فيقول عنها لا مبفكرش فيها أصلا دى كتير علينا أوى". يعمل عبد العزيز بشركة مصر المنوفية للغزل والنسيج منذ 29 عام ، والتى توقفت عن العمل منذ 15 شهر بعد أن عجز أصحابها عن سداد قروض بلغت 220 مليون جنيه فأصبح أكثر من 500 عامل بها بلا عمل ومن حينها تولت الدولة صرف راتبهم الأساسى من صندوق الإعانة ولكنها تخلت هى الأخرى عن صرف مرتباتهم منذ 4 أشهر، واختتم عبد العزيز حديثه بدعاء كله شجن قائلا "يا رب اجعله أخر عيد من البهدلة والذل". أما أيمن فؤاد عامل بنفس الشركة فقرر أن يغلق باب منزله طيلة أيام العيد حتى لا يرى أولاده أمثالهم ممن يرتدون ملابس جديدة دون أن توفر له الدولة إعانة ينفق منها على أسرته فى العيد. وبمجرد أن سألناه كيف تستقبل العيد أنطلق محمد عوض _ 33سنة _ فى الضحك والتمتمة، وفجأة توقف عن الضحك وأخذ نفسا طويلا وقال "العيد ليه ناسه هو إحنا لاقيين عيش حاف علشان نفكر فى اللحمة والعدية" وعلى نفس أوتار أغنية ال"145 جنيها اعمل بيهم إيه ولا إيه" قال محمد "أنا بقبض 173 جنيها اعمل بيهم إيه ولا إيه"، محمد لديه ولدان بالتعليم ويخشى أن ينجب الثالث يعمل موظف بمستشفى طامية المركزى الفيوم، وجاء هنا بالعاصمة ليعتصم أمام مجلس الوزراء هو وعدد من عمال المستشفى آملين أن يزيد راتبهم. ويضيف محمد أن والده هو الذى يتولى كسوة أولاده وزوجته، ولولاه لكانوا عرايا وجوعى متسائلا اسرق وأبلطج حتى استطيع أن انفق على أولادى أم انتحر حتى لا أكون عالة على أبى؟ والتقطت طرف الحديث الحاجة أم أحمد والتى تعمل بنفس المستشفى وقالت بصوت ملهوف انتظر قدوم العيد لأعود لأولادى الأربعة بعد أن تركتهم وجاءت للقاهرة آملة أن تجد من يسمع مطالبهم ، مشيرة إلى أنها ستعود مرة أخرى بعد العيد لرصيف مجلس الوزراء ولن تغادره هذه المرة حتى تتحقق مطالبهم، عازمة أن تقضى وقتا سعيدا مع أطفالها وتعوضهم بحضنها الدافئ عن الثوب الجديد وعدية العيد. أما محمد شعبان 23 سنة فنى بمستشفى طامية الفيوم فكل ما يشغله بماذا يذهب لخطيبته يوم العيد والعدية التى من المفترض أن يهديها لها شأنه شأن كل الخطاب، غير انه لا يمتلك ما يكفيه هو حتى يهادى خطيبته. وبالنسبة لعم عيد سليمان فالحال لا يختلف كثيرا، أجبرته الشركة التى يعمل بها (شركة اسمنت حلوان) هو و كثيرا من عمال الشركة على الخروج على المعاش المبكر منذ ثلاثة أعوام ليتصارع مع الحياة دون عمل أو حتى دخلا يتماشى مع الغلاء المتزايد للأسعار، مضيفا انه من الصعب أن يجد عملا آخر فى وقت يتسابق فيه العاطلين ليحجزوا أمكانهم على المقاهى. وبحلول العيد يزيد هم عم عيد لأنه يتطلب مصاريف إضافية ويقول أن أكثر لحظة شعر فيها بالانكسار عندما سأله ابنه عن العدية ولن يملك الأب سوى الضحك المصحوب بنبرات القهر والحسرة قائلا لا يأبنى انت اللى هتعطينى عدية إحنا خلاص عجزنا. وبالرغم من ذلك إلا أن الأمل يغمر عم عيد بأنه سيأتى اليوم الذى يحصل فيه العامل على كل حقوقه ويسترد كرامته المسلوبة وان اضطر الأمر ليثور العمال. بينما استطاعت مصاعب الحياة أن تسرق فرحة العيد من هؤلاء إلا أنها لم تستطع أن تسلبها من عم محمد محى الذى خرج على المعاش المبكر جبرا من شركة النصر للسيارات تحت مسمى المعاش المبكر الاختيارى بعد أن لجأت الشركة إلى أسوأ الأساليب التعسفية مع العمال وحرمانهم من رواتبهم وحوافزهم حتى ينتهى الأمر بملء استمارات المعاش المبكر وتسريح العمال. يرى عم محمد انه بالرغم من كل هذه المعاناة إلا انه أبى أن يستسلم لها وخاصة وان العيد يقبل علينا ببركاته ويرى انه منحة من الله لنخرج من هم الحياة فلا ينبغى أن نضيعها مصرا أن يقضى اسعد الأوقات مع أسرته فى العيد فالعيد عند عم محمد ليس باللبس الجديد والعدية واللحمة. فبينما تجد أناس تأكل لحمة كل يوم تجد فى نفس البلد وربما نفس الشارع تجد أناس نسوا طعم اللحمة ولأننا نعيش فى فترة غدا الحلم فيها مشروعا فلا نملك سوى الأمل أن يأتى الغد بما تشتهى سفينة العمال.