وإلى متى سنترك الغفلة وقلة الضمير تتحكم في حياتنا وموتنا؟
أولا ردد معي هذا الدعاء: اللهم أني أعوذ بك من اتباع الترندات، وعبادة اللايكات، والجري وراء البوستات، وانزع اللهم من قلبي الرغبة زيادة في الشيرات، ومراقبة عدد الفيوهات، واللهاث وراء الكومنتات، واجعل اللهم كل كلمة أقولها خالصة لك وللوطن حتى لو استاء منها المجموع ونالت سخط الجموع.
ثانيا: اعترف لي بواحدة وسأعترف لك بالأخرى، سأعترف لك أن أزمة استشهاد الدكتور وليد يحيى عبد الحليم تنطوي على إهمال جسيم، وكل ما أريده منك أن تعترف لي أن الأزمات لا تحل بالاستمتاع بإلقاء الاتهامات، وأن الأزمات لا تحل بالبوستات الملقاة على قارعة الفيس بوك رغبة في شير هنا أو لايك هناك مات الدكتور وليد يحيى بعد إصابته بكورونا، جندي أصيب وهو يحمي الحدود، عامل سقط وهو يبنى بيتا أو مدرسة، ربما يكون الموت بسبب الإهمال، نعم، وربما لا إهمال في الأمر، نعم، ربما يكون هنا من تسبب في وفاته، نعم، وربما يكون السبب مجهولا حتى الآن، نحن لا نعرف على وجه التحديد ما الذي حدث وكيف حدث، لا نعلم أيضا سبب الوفاة تحديدا لأنه بحسب ما قرأت لم يتم تشريح للجسد أو إجراء الفحوصات المعملية اللازمة، ولأني لا أريد أن أستبق الأحداث، ولأني أيضا لا أريد أن أكون وجه نظر معيبة سأنتظر حتى انتهاء التحقيق الذي يتابعه الرئيس عبد الفتاح السيسي بنفسه لأشير معك على الجاني مطالبا بمحاكمته "إن وجد".
كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته، ولا أفهم كيف والرئيس عبد الفتاح السيسي طالب منذ أيام بتكريم شهداء الجيش الأبيض وإطلاق اسمائهم على الشوارع والميادين ومع هذا يدعي البعض ان النظام المصري يحتقر الاطباء او يقتلهم كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته، والمسئولية هنا لا تحتمل فكرة تقديم استقالات جماعية كانت أو فردية من أعضاء الجهاز الطبي لأي مستشفى، وهي ذات المسئولية التي ترفض رفضا تاما رمي من انفعل وقدم استقالته بالخيانة والعمالة والاستقواء بالتأشيرة الأمريكية التي لوح بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لجميع أطباء العالم.
ارجوك اتفق معي أن مصر ليست جنة، لكني لا أستطيع أن أتفق معك إن زعمت أنها جهنم، الوطن كما تعرف ليس فندقا تطلب فيه فتجاب، وليس منتجعا سياحيا تأمر فيه فتطاع، الوطن ما نبنيه نحن لأبنائنا لا لأنفسنا، فلماذا لا نتقمص دور المهندس الذي يعاين التربة ويحدد عيوبها ليعالجها قبل الحفر للأساسات؟
أنت تريد أن تلعن الحكومة..العنها يا سيدي محدش هيمنعك.. لكني أريدك أن تسأل نفسك: من الذي سيحل هذه الأزمة إن كان لها حل؟ أليست الحكومة؟ من الذي سيضع القواعد التي تحد من وقوعها؟ أليست الحكومة؟ ما هي الجهة التنفيذية التي ستحقق مطالبك؟ أليست الحكومة؟ ألم يكن الشهيد الدكتور وليد من الحكومة موظفا في الحكومة؟ أوليس مديره موظفا في الحكومة؟ أوليست وزيرته وزيرة في الحكومة؟
كلنا نلعب دور الحكومة تارة، ودور المواطن تارة أخرى، مهندس الحي يلعن اليوم الذي يذهب فيه ليجدد رخصة القيادة أو جواز السفر، وعامل السجل المدني يلعن اليوم الذي يذهب فيه إلى الحي ليستخرج رخصة بناء أو تصريح بهدم، مدير المستشفى يلعن اليوم الذي تعطل فيه سيارته ويضطر إلى الذهاب إلى إلى عمله مستقلا مترو الأنفاق، وعامل المترو يلعن اليوم الذي يمرض فيه ويضطر إلي الذهاب إلى المستشفى، المحامي يصرخ من استغلال الصنايعية، والصنايعي يجأر من استغلال المحامين، كلنا حكومة، وكلنا مواطنون، كلنا نعاني من الإهمال، وكلنا مهملون والله.
هل تريد فعلا أن تعرف من الذي قتل الدكتور وليد؟ أنت الذي قتلته، الغفلة التي سكنتنا منذ سنين هي التي قتلته، وصدقني أنا لا أفهم حتى الآن كيف يمرض طبيب في مستشفى حكومي ولا يجد علاجا؟ أين أصدقاؤه الذي تضامنوا معه الآن من علاجه سابقا؟ إن كان من يقرر دخول هذا في الحجر الصحي أو خروج هذا منه لا يستطيع أن يدخل نفسه أو يعالج نفسه فمن يستطيع؟ أين نقابة الأطباء من حماية أعضائها؟ أم وظيفة النقابة هي كتابة
البيانات ونشر البوستات فحسب؟ عار على كل طبيب يقصر في حماية صديقه، وعار على نقابة الأطباء الاكتفاء بإلقاء اللوم على الحكومة فحسب، وإني لأعجب ألم يكن من الأجدى للنقابة أن تنشئ وحدة متابعة مركزية برئاسة النقيب ذاته ليتابع جميع من يمرضون من أعضاء نقابته بدلا من الاكتفاء بكتابة النعي على صفحات التواصل الاجتماعي؟ أولم يكن من الأجدى أن تتواصل النقابة
مع أعضائها شخصيا قبل أن تتواصل معهم "فيسبوكيا"؟ أنت تريد أن تعرف من الذي قتل الدكتور وليد وأنا سأقول لك: الغفلة هي التي قتلته، عدم الرغبة في العمل هي التي قتلته، فقدان شغف المهنة والعزوف عن الإنجاز وعدم تقدير الناجحين هو الذي قتله، كل عامل في مكانه وكل موظف في مكتبه لا يريد أن يعمل، وإن عمل يوحي إليك أنه عمل هذا "عشان خاطر عنيك" أو "عشان خاطر اللي في جيبك" عامل الأسانسير في أي مستشفى حكومي أو مصلحة حكومية لا يريد أن يوصلك إلى الدور الذي تريد إلا إذا أوحيت إليه بأنك "هتراضيه" وكأن هذه ليست مهنته، التمرجي في المستشفى لا يريد أن يغير لك فرش السرير إلا إذا "صبحت عليه" وكأن تغيير الفرش هذا ليس من أساسيات مهنته، الجميع يعمل متفضلا عليك بالعمل، وكأن عمله الأساسي لا يمت بصله بما تريده منه وما عينته الدولة من أجله.
ولا تظن أن هذا يحدث في المصالح الحكومية فحسب، هذا يحدث في كل المجالات، نائب الشعب يتفضل عليك بخدمته الشعب الذي أنابه في خدمته، وسائق الميكروباص يتفضل عليك بركوب سيارته المتهالكه برغم أنه يتحصل على أضعاف الأجرة المستحقة، وما يحدث في المستشفيات العامة يحدث في الخاصة، وما يحدث عند الميكانيكي يحدث عن التوكيل، وللأسف توغل مرض الغفلة في الشعب المصري ولم يعد ينفع معه شيء، وأصبحنا لا نأخذ حقوقنا حتى "بالواسطة" ولا "بالمال".
ذات يوم كنت مع أحد المسئولين الكبار جدا في الدولة، وحينما رأيت أمرا خاطئا سألته لماذا لم تصلح هذا الخطأ فرد علي قائلا: قلتلهم والله..ناسيا أن وظيفته تجبره على أن يعمل على تصحيح الخطأ وليس على أن "يقولهم
" أصدقاء الشهيد "وليد" يريدون أن يحملوا "وزارة الصحة" مسئولية استشهاد البطل في المعركة، فاتهام الوزيرة يعفي الجميع من المسئولية، واتهام الوزارة يحقق "الضجة المطلوبة، لكنهم لا يقرون أبدا أن وزارة الصحة تلك هي أصدقاء الدكتور وليد نفسه الذين لم ينتبهوا إلى مرضه ولم يعالجوه حق علاجه، وهي الطبيب الاستشاري الذي يساعده الدكتور وليد والذي رأى مساعده مريضا ولم يحرك ساكنا، وهي مدير المستشفى الذي يعمل به وليد والذي لم يتابع الحالة ولم يضغط من أجل حصولها على ما تستحق من الاهتمام، نسى الجميع أن أي وزارة هي مجموع من يعمل بها، وأن الشفاء من عند الله لكنه يجب أن يقدم بأيدي البشر.