أنا سعيدة لأن "بابا" ذهب للجنة ولكن أفتقده بشدة، خاصة فى أيام رمضان الأولى كان يحبنى بشدة وكنت أحب كل شىء فيه، كانت تتحدث بوجهها المشرق وحزنها المفهوم، هى ابنة الشهيد "وليد" أحد أبطال الزاوية الحمراء، بسيط لكنه رائع، سائق تاكسى يسعى على رزق أسرته ويحلم بغد مشرق ويرضى بما قسمه الله له، ذهب ليصلى جمعة الغضب ووقف مع الجموع ورأى القتلى والمصابين فى كل مكان، عاد لزوجته ليعطيها بطاقته الشخصية وهاتفه الجوال، وقال إن الجثث كثيرة وإنه سيعود ليساعد فى نقل المصابين سألته "ليه تروح أنت؟" فقال بكل شجاعة وصدق "لو مارحتش أنا، مين يروح؟" وذهب ولم يعد، رحمك الله فأنت البطل الحقيقى لهذه الثورة، يوم جمعة الغضب رأيت أمثال "وليد" فى كل مكان، رأيت بسطاء هذا الوطن وأفراده المهمشين وكانوا هم الأبطال حقاً، كنا نتحرك بصعوبة نحاول الدخول إلى ميدان التحرير والذى ظل حتى حوالى الساعة الخامسة عصراً لم يدخله أحد، وكانوا يسيرون معنا يتقدمون الصفوف ويجابهون الشرطة بصدورهم العارية، وعندما دخلنا التحرير وصلينا المغرب، رأيتهم يحضرون ناقلة جنود معطلة ويركبونها ويتجهون بها ناحية قوات الشرطة التى أمطرتنا بالرصاص المطاطى والقنابل المسيلة، نظر لى الشاب البسيط الجالس على عجلة القيادة وقال لى "شهداء بإذن الله يا شيخ!" لاأتمالك دموعى كلما تذكرته ولا أدرى إلى الآن ماذا حدث لهم فقد ذهبوا ولم يعودوا، أتذكر الآن مشهد لسيدنا عمر بن الخطاب وهو يتحدث مع أحد الصحابة عن إحدى المعارك، فيقول له الصحابى إن فلانا استشهد وفلانا كذلك وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم، فبكى عمر وقال: لا يضرهم ألا يعرفهم عمر ولكن الله يعرفهم، وقد أكرمهم الله بالشهادة، وما يصنعون بمعرفة عمر؟ نعم الله يعرفهم ونحن لانعرفهم هم الأبطال وهم أصحاب الثورة... بعد أن صليت المغرب فى ميدان التحرير يوم جمعة الغضب، جاءنى ولد صغير وقال لى "هو إحنا فين؟ وإزاى أرجع للعباسية ياشيخ؟" نظرت له بملابسه المتسخة وحذائه الممزق وسألته كيف جئت هنا؟، قال أنه رأى المتظاهرين فجاء معهم من العباسية إلى التحرير، إذا رأيته فى أى مكان خارج الميدان سأظنه ولد "من بتوع شم الكلة" ولكنه هنا أحد الثوار الصغار الذى فاق بشجاعته الكبار ممن كانوا يقولون لى لا تذهب "لحسن يجرالك حاجة!!"، شرحت له كيف يعود وتركته وأنا فى قمة الاندهاش والسعادة، فى بعض ليالى الثورة وقفت مع الجيران فى اللجان الشعبية فى منطقتى الراقية، كان بعضهم لايحب الثوار ويرى أن الحياة كانت لطيفة وليس لديه مشكلة مع النظام، وكنت الممثل للثوار فى وسطهم وأخوض معهم معركة حامية، ولكن أكثر ما آلمنى هو تعاملهم مع بسطاء الشعب الذين يقودهم قدرهم إلى المرور بنا، يتعاملون معهم بمنتهى القسوة والكبر ويقولون لا مشكلة فى قتلهم إن تطلب الأمر!! هكذا بكل بساطة؟ لمجرد أنهم بسطاء، أغلب شعبنا بسطاء! وأنا أحبهم ومستعد للتضحية من أجلهم كما ضحوا فى أيام الثورة وكانوا السبب الرئيسى – بعد فضل الله - فى نجاحها، يا ترى كم من هؤلاء الأبطال يحاكم الآن عسكرياً فى محاكمات ظالمة لمجرد "إن شكله غلبان"؟ وكم منهم أتهم بالبلطجة لأنه دافع عن الثوار أو هاجم الشرطة؟ ويا ترى كم أسرة شهيد تم نسيانها أو تعويضها بما لايمثل واحد فى الألف من راتب مذيع فى فضائية ركبت الثورة بينما كان هو نائماً يوم جمعة الغضب والآن يدعى أنه أبو الثورة وناصر البسطاء وحليف الشهداء! ويا ترى من شارك ونجى منهم هل أحس بأثر الثورة عليه وعلى أسرته؟ وكم منهم عندما طالب بوظيفة أو حد أدنى للأجور أو مسكن أو علاج نظر له أمثال رفاق اللجان الشعبية وقالوا "مطالب فئوية"! بعيداً عن السياسة وبعيداً عن المليونيات وعن الفضائيات أجلس وحدى أتذكرهم وأرثى لهم، كانوا هم الأبطال وأكاد أجزم أنهم السبب الرئيسى فى نجاح الثورة وصمودها واستمرارها، زرت الميدان فى أحد أيام الاعتصام الأخير وقبل مليونية السلفيين (كما أطلق عليها) وتعرفت بأحد الشباب البسطاء وعرفت أنه شارك فى جمعة الغضب، كان يرتدى ملابس بسيطة للغاية وكنت عائداً من العمل أرتدى بدلة كاملة ضحكنا معاً ونحن نتذكر أحداث جمعة الغضب وفوجئت به يحتضننى ويقول لي: أنا لا أخشى منك ولا من الملتحين، ولكنى أريد أن أسألك: "هو فيه أمل يا شيخ؟ يعنى ممكن ييجى يوم وأحقق أحلامى ويبقى عندى شقة ووظيفة كويسة واتجوز وكده يعني" لم أدرى بما أجيبه؟ احتضنته وقلت له أنا أثق فى الله ثم فى هذا الشعب الطيب وفى أمثالك من الشباب الرائع وإن شاء الله ستحقق كل أحلامك الجميلة البسيطة... وتركته وانصرفت وصورته لاتفارق خيالى وتؤرق حياتى وتساؤلاته مازالت قائمة واعتقد أنها ضائعة فى خضم الصراع على السلطة والمتاجرة بأحلام البسطاء، فاللهم ضاقت السبل وانقطع الطريق وتفرق الجمع وقل الصاحب والنصير وأنت بيدك الخير كله، اللهم أرزقنا نوراً من عندك وبصيرةً نفرق بها بين من يحبنا فعلاً ويعمل لأجلنا وبين من يتاجر بأحلامنا ويدعى محبتنا، وارزقنا رحمة من عندك تحقق بها لكل بسطاء شعبى أحلامهم الصغيرة الجميلة ففعلك جميل وتصريفك رائع وقضاؤك حكيم... اللهم آمين... اللهم آمين.