كان صغيرًا للغاية عندما كان يحمل حقيبة الخبز البلاستيك الكبيرة.. وينتعل شبشبا من ذلك النوع الذى يطرقع كلما ارتطم بالكعب، وهو يرتدى البيجاما ويذهب فى رحلة شبه يومية إلى المخبز فى بلدته مارا على مقام مهمل فى نهاية زقاق متفرع من حارة متفرعة بدورها من شارع صغير متفرع هو الآخر من الشارع الكبير للبلدة.. كان دائما ما يحاول أن يرضى فضوله بأن يدخل هذا الزقاق ويتهجى الكلمات المكتوبة على لافته قديمة للغاية وبالخط الثلث لهذا المقام المهمل "هذا مقام سيدى الأربعين". هو مجرد مقام مهمل.. عبارة عن أربعة جدران بالكاد تتسع لرجل ميت دفن نائما على ظهره مادا ساقيه.. غرفة مربعة عالية الجدران حتى أن نهاية الجدار تحف بالدور الثانى من البيوت المجاورة.. ثم تعلو تلك الجدران قبة ضخمة وكأنها اقتطعت من جامع ضخم.. أحد الجدران تحتله بوابة خشبية ضخمة بنية اللون أو كانت بنية اللون فقد كلحت الألوان بفعل الزمن.. وقد امتلأت بالمنمات والحشوات التى تدل على عصر قديم مغرق فى القدم.. وعليها رتاج ضخم من الخشب يمسك بتلابيبه جنزير صدئ فى نهايته قفل حديث نسبيا.. وفى الجدار الآخر شباك صغير.. تحفه مجموعة من القضبان الحديدية السميكة.. كان دائما فى رحلاته شبه اليومية لشراء الخبز ما يحاول القفز والنط والتشعلق والتشعبط بهذه القضبان رغبة منه فى أن يرى ما بداخل تلك الغرفة، ولكنه كان دائما ما يفشل ويسقط على ظهره ولا تعينه قامته القصيرة فى الوصول إلى تلك القضبان.. كان جل اهتمامه فى سنه الصغيرة تلك.. كيف يستطيع جيران هذا المقام النوم وبجوارهم رجل ميت.. فعلى فرض أنه ولى من أولياء الله.. ولكن فى النهاية هو ميت.. جثة.. هو يعرف أن الأموات لا يؤذون.. ولكن أرواحهم تجوب المكان.. وتتحول إلى أشباح.. تداعب الصغار.. وتخيفهم.. أو تتلبس تلك الأرواح القطط السوداء التى تلمع عيونها فى الظلام والتى إذا رأيتها لابد أن تقرأ آية الكرسى.. هكذا كانت تقول له جدته مخيفة إياه إلى حد الرعب حتى يغطى رأسه وينام.. مرت بضعة أعوام ومازالت رحلات الخبز شبه اليومى، ولكن قامته طالت قليلا.. فقفز ونط وتعلق وتشعلق وتشعبط بالقضبان الحديدية، ولكنه لم ير سوى غطاء أخضر مترب يعلو شيئا ما خشبى هو فى الأرجح قبر هذا الرجل المسمى الأربعين.. ولأول مرة يسأل نفسه من هذا الأربعين.. وهل هذا هو اسمه حقا.. وكيف دفن وحده هكذا وحيدا بين الأحياء.. وما هى كراماته.. ولماذا ليس له مولد يحتفل به أو زوار أو صندوق نذور مثل السيد البدوى وسيدى إبراهيم الدسوقى وسيدى الزنفلى.. ذهب بتساؤلاته إلى أبيه الذى ابتسم له قائلا إنه ولد فوجد هذا المقام فى مكانه.. فذهب إلى الجد.. فكانت نفس الإجابة.. ثم هداه تفكيره فى إلى سيدة عجوز.. هى أقدم نساء البلدة بل قد تكون أقدم من المقام نفسه.. تغضن وجهها وتكرمش مثل ورقة جرائد تكرمشت بفعل المياه والرياح.. وجسدها ممصوص تماماً شبه ميت وشبه حى.. كانت كفيفة وأيضًا تسمع بصعوبة.. ولكن الشىء الوحيد الذى ما زال يتحرك فيها هو لسانها.. ذهب إليها وسألها عن حكاية مقام سيدى الأربعين.. اضطر أن يزعق عدة مرات فى أذنها حتى كاد ييأس ويتركها ويذهب ليسأل غيرها، ولكنها فى النهاية سمعته. كل ما قالته إنها ولدت فوجدته.. مجرد مبنى حجرى كان على أطراف البلدة وسط الغيطان، ولكن العمران زحف إليه.. حتى أن البيوت حوله كانت مبنية بالطين ثم هدمت لتبنى بالطوب والأسمنت.. وهذا المقام على حاله.. لا أحد يعرف اسم صاحبه سوى أنه الأربعين ولا يعرفون كرماته ولا نذوره.. فهو بحق الشيخ المقطوع نذره.. كان أمر المقام قد بدأ يتحول من مجرد فضول فى ذهن الفتى إلى رغبة بحث مضنية.. فذهب إلى المقام وكان قد بلغ طور البلوغ.. وقف أمام المقام يتفحصه وكأنه عالم آثار.. يخبط على جدرانه الحجرية.. وعلى بابه الخشبى.. صوت دقاته جعلت إحدى النسوة تنتبه إليه فخرجت من أحد البيوت وسألته عن السبب الذى يجعله واقفا هكذا أمام هذا المقام فى زقاقهم الذى لا يدخله أى غريب. حاول أن يشرح لها ولكن السيدة كانت شرسة ورأت الشارب الصغير فى وجهه.. فظنت أنه قد جاء لمعاكسة إحدى بنات الزقاق.. يومها خرج فارا من الزقاق تشيعه لعنات باقى الجارات اللاتى جاملن السيدة الشرسة فى السب وإلقاء الطوب على الفتى.. كان طبيعياً بعد ذلك أن يلجأ الفتى إلى الكتب.. ذهب إلى قصر الثقافة فى بلدتهم.. ولكنه لم يجد شيئا وسط عشرات الكتب فى مكتبة القصر.. فذهب إلى مدرس التاريخ وحاول سؤاله ولكنه لم يعثر عنده على إجابة سوى أن هذا البناء قد بنى حتما فى العصر المملوكى فهو طراز مملوكى بحت.. كان فتانا قد وصل إلى مرحلة الثانوية العامة.. وقد قرأ أرتالا من الكتب فى شتى أمور المعرفة.. التاريخ والفن والسياسة وعلوم الاجتماع والفلسفة.. فاجتاز امتحان الثانوية العامة بتفوق ليلتحق برغم مجموعه الكبير بكلية الآداب قسم التاريخ.. كان أول شىء فعله قبل حتى أن يسجل اسمه فى دفاتر شئون الطلبة أن يذهب إلى المكتبة ويبحث عن الكتب التى قد تعينه على الوصول إلى بغيته بعدما استفحل فضوله عن مقام سيدى الأربعين ليصبح أكبر من قبة هذا المقام المهمل.. التقى بالأساتذة وسألهم ولكنهم تفلسفوا وتسفسطوا.. وحكوا وأرخوا.. ولم يجد بغيته عندهم.. فأرشده أحدهم إلى الشهر العقارى حيث إن هناك وثائق هامة تفيده فى بحثه.. فى القاهرة وفى مقر الشهر العقارى وجد آلافاً من الوثائق التى كتبت على أوراق البردى وعلى جلود الغزال تؤرخ لأبنية مصر من العصر المملوكى والعثمانى وحتى اليوم.. سأل الموظفين ولكنهم كانوا مجرد موظفين.. لا يمتلكون خبرات الباحث.. فذهب مرة أخرى إلى أساتذته الذين أرشدوه إلى دار الوثائق.. وهناك قتل المكتبات بحثا حتى كل بصره فارتدى منظارا طبيا وبدا الشيب بدوره يظهر فى شعره.. بل بانت صلعة خفيفة وهو مازال لم يحصل على شهادة الليسانس.. تخرج فى الجامعة.. ولم يجد عملا بسهولة فقرر أن يعمل مندوبا للمبيعات فى إحدى الشركات التى تبيع الأجهزة الصينى الرخيصة.. وكان مطلوبا منه أن يلف ويدور على المدن والقرى والنجوع يعرض فيها بضاعته ويجادل ويناقش ويخرج الجنيهات من جيوب الزبائن حتى تزداد عمولته وراتبه المرتبطين بقدرته على البيع.. وكانت الكارثة.. لقد وجد فى إحدى القرى مقامًا هو صورة طبق الأصل من مقام سيدى الأربعين الموجود فى بلدته.. والكارثة الأخرى أن هذا المقام اسمه "مقام سيدى الأربعين". ذهب إلى أساتذته الذين أجمعوا على أن تاريخ مصر لم يكتب كاملا حتى الآن وأن بحثه هذا الذى يكاد يفنى حياته كلها فيه قد يكشف لهم عن شىء يستطيعون منه كتابة مرحلة مجهولة فى تاريخ مصر.. كانت كلمات هؤلاء الأساتذة مثل الوقود الذى أشعله حماسًا.. فقرر ألا ييأس وأن يستمر فى بحثه وكانت الكارثة الأكبر.. لقد وجد بضعة مقامات أخرى تحمل نفس الاسم ونفس الطراز فى البناء فى ثلاثة نجوع وقريتين وأربع مدن. كان الفتى أو الرجل الآن على شفا الجنون.. فقرر أن يقوم بتسجيل رسالة ماجستير حول " تاريخ الوثائق المملوكية فى الأبنية المصرية ".. كانت رسالة شاقة ولكنه أنجزها فى غضون سنتين فقط.. فقد كان ملما بكل جوانب رسالته.. مما أتاح له فرصة العمل فى إحدى الجامعات الخاصة وبمبلغ كبير جعله يقدم على الزواج ثم كانت رسالة الدكتوراه والتى حصل عليها بامتياز.. وتضخمت مكتبته.. وابيض الباقى من شعره بعدما زحف الصلع بشراهة على رأسه.. وكبر حجم نظارته.. وبدا يشعر بآلام فى الظهر والرقبة من كثرة الانحناء على المكتب.. وأجرى جراحة انزلاق غضروفى بعد سنوات فى ظهره.. ونصحه الأطباء بأن يريح نفسه قليلا وأن يقلل من السجائر.. وأستطاع أن ينتج بضع كتب هامة.. تاريخ الحملات الصليبية من الوثائق الفرنسية "وكتاب آخر" المدن المصرية والآثار المملوكية "وهكذا ظل الرجل ينتج كتبا كلها تدور حول هذا المقام المهمل فى قريته.. كان قد أنجب ولدا وبنتا.. وكان الاثنان يحاولان مساعدة أبيهما ولكن الابنة تخلفت عن هذه المساعدة بعدما تزوجت.. أما الابن فقد قرر أن يستكمل بقية دراسته فى الطب فى السوربون بباريس. كان الرجل قد بدا يدب فى أوصاله الوهن بعدما هاجمه مرض السكر بلا هوادة.. ومع محاولات الإقلاع عن التدخين الفاشلة.. أصبحت رئتية لا تتحملان حتى مجرد الذهاب إلى المكتبة فى الغرفة المجاورة وإحضار كتب.. فاستأجر له سكرتيرا ليعينه على العمل والبحث.. وأيضا متابعة آخر الأبحاث على شبكة الإنترنت.. كان الجميع يظنون هذا الرجل مجنونا.. إذا التقوا به فى ندوة سألوه.. هل توصلت إلى ذلك المسمى بالأربعين.. كان يبتسم ويصمت.. ولكنه كان يشير لهم بقوة.. أن لولا هذا الرجل ما أصبح أهم مؤرخ للعصر المملوكى ووثائقه فى الشرق كله.. وأنه مرشح لإلقاء محاضرات فى السوربون ذاته.. ولكنه ينتظر التقاعد الذى سيأتى بعد شهور حتى يكون حرا من أسر الوظيفة.. وبالفعل قبل ترشيح السوربون.. واصطحب زوجته ليقضيا ما تبقى لهم من عمر فى فرنسا.. كان كل هم الزوجة أن ترى الشانزليزيه.. أما هو فبمجرد أن وطئت قدماه تلك الجامعة العريقة حتى ذهب إلى المكتبة.. نفس الموقف الذى فعله عندما دخل الجامعة فى مصر.. التقى به بعد ذلك بمدير الجامعة ليخبره بادب فرنسى أنهم سيقيمون حفل صغير له بمناسبة قدومه.. وفى الحفل كان لابد أن يلقى كلمة فحكى لهم عن مقام سيدى الأربعين وكيف أن هذا المقام المهمل كان سببا فى أن يصبح بينهم الآن.. صفق له الحضور وبعدما ترك المنصة.. وجد سيدة فرنسية تقترب منه.. كان منظارها الطبى وبقايا الجمال فى وجهها ينبآن بأنها باحثة جادة.. أمسكت بذراعه وهى تقول إنها تدعوه على فنجان قهوة تركى فى مقهى رائع بالشانزليزيه. وعلى أنغام رشفات القهوة قالت له ببساطة.. إن هذا الذى يبحث عنه قد تساعده فى الوصول إليه فهى تمتلك كتابًا قديمًا باللغة العربية استطاعت أن تترجم منه مقاطع كاملة باستخدام خدمة الترجمة على الإنترنت.. وقد وجدت فيه ذكر لكلمة الأربعين.. وهى تعرض عليه صفقة فهو سيترجم لها الكتاب.. فى حين هو سيعرف حكاية صاحب المقام.. كان لابد أن يسألها سؤالين فى غاية الأهمية.. الأول لماذا لم تعط الكتاب إلى أحد المترجمين ليقوم بترجمته فأجابت بان القانون فى فرنسا يمنع اقتناء الكتب الأثرية وهذا الكتاب هو عبارة عن مذكرات لشيخ أزهرى مصرى كان مقاوما لنابليون فى أثناء غزوة لمصر.. أما السؤال الثانى فكان إذا لم يجد بغيته فى هذا الكتاب فهى ستكون الرابحة الوحيدة.. هنا هزت كتفيها قائله إنه يستطيع أن يكتب عن هذه المذكرات كتابا كاملا.. وفى بيت هذه السيدة الفرنسية.. استقبلته لتفتح خزانة حديدية ضخمة وتخرج الكتاب الذى هو عبارة عن مجموعة كبيرة من الصفحات وسط دفتين من الجلد وأعطتهم إياه وبدًا الرجل يقرأ.. ويقرأ ومرت ساعة.. ومرت بضع ساعات.. وأشعل سيجارته العشرين بعد المائة حتى أنه أخذ بقية علبة سجائر السيدة الفرنسية ومع نسمات الفجر.. رفع رأسه ليقول ووجه ينطق بسعادة عجيبة.. أخيرا.. اعتدل الرجل وقد بدأت آلام ظهره تغزوه بعنف.. والسيدة الفرنسية تنظر له بإعجاب شديد لصبره وحبه للعلم حتى يقرأ مذكرات متهرئة مكتوبة بحبر ضاع الكثير منه بفعل الزمن.. قال.. لقد عرفت البشرية الآن من هو الأربعين.. وبدأ يقص عليها ما فى المذكرات.. قال إن الأربعين هو شخص مصرى.. مجرد شخص عادى، ولكن مع دخول الحملة الفرنسية إلى مصر تزعم القتال ضد نابليون وجيشه فما كان منهم إلا أن ألقوا القبض عليه وحاكموه بتهمة قتل فرنسيين.. ثم أعدموه رميا بالرصاص وتركوا جثته ومضوا ولكن أهل مصر أبوا أن يدفن هذا البطل مثل الجبناء.. فبنوا على جثته مقامًا.. كان هذا المقام معقلا تخرج منه حركات المقاومة وثورة القاهرة الأولى.. وبعد إخماد الثورة بالمدافع.. أقدم الفرنسيون على جريمة أخرى.. فقد نبشوا قبر هذا الرجل.. وقطعوا رفات جثته إلى أربعين قطعة ألقوه كل قطعة فى قرية ونجع ومدينة حتى تتشتت المقاومة.. ولكن المصريين أقاموا على كل قطعة مقاماً وقبة.. وسموا هذا المقام بمقام الأربعين.. تيمنا بعدد القطع التى قطعها الفرنسيون.. وخاب ظن الفرنسيون فقد تحول كل مقام إلى معقلا ومركزا للمقاومة.. فهدموا البعض من تلك المقامات فى ثورة القاهرة الثانية التى امتدت إلى بر مصر كله.. وخرج الفرنسيون.. وبقيت المقامات.. ولكن نسى الناس بطولة هذا الرجل.. ولكن المقامات موجودة فى قرى ونجوع ومدن مصر.. هنا ضحك الرجل كطفل صغير وهو يقول الآن بعد كل هذا العمر عرفت حكاية مقام سيدى الأربعين. ملحوظة: مقام سيدى الأربعين مقام حقيقى موجود بالفعل فى بعض قرى ونجوع مصر ولكن حكايته غير معروفة وقد أضنتنى فى البحث فاستعنت بحكايات المقاومة للفرنسيين فى فترة الحملة الفرنسية وأسطورة إيزيس وأوزوريس لأكتب هذه القصة.. وقد يكون هناك من يعرف حكاية هذا المقام وأعدكم أن أعيد كتابة هذه القصة القصيرة إذا ظهر من يدلنى على حكاية سيدى الأربعين قبل أن أفقد البقية الباقية من عمرى مثل بطل هذه القصة.