هؤلاء الخفافيش لا يدركون أن بداية الغيث قطر، وأن المجتمعات حين تكتسب ميزة فمن الصعب التراجع عنها، فالشعوب تنفتح شهيتها كلما تجرعت نقطة حرية، وكأنها إكسير غامض يكسبها جرأة ويدفعها للتقدم من موقع لآخر، دونما نظر للوراء، فلقد ولى زمن وأتى زمن، والمكتسبات تتصلب فى قوالب المجتمعات كى تتوالد منها مكتسبات جديدة مثل الانقسام المتتالى للنواة، مثل الفجر يستجمع أصابعه النورانية كى يقذف بمساحة أكبر من الضوء كلما مر الزمن. هذا ليس تعليقاً على المساجلات التى تدور حالياً فى مصر، وإنما محاولة لقراءة الواقع بما فى ذلك المتوقع من هذه الأحداث، فمن المحقق أن تغيراً قد طرأ، وأهمية هذا التغير أنه قد فتح باباً تراكمت خلفه الأتربة والأحجار سنوات بلا عدد، وشرع العقل الجمعى فى اكتشاف إمكانيات جديدة وآفاق أوسع، وتبلور جنين إرادة شعبية بعد مخاض طويل، وتأكد الجميع أو أغلبهم أن الحمل هذه المرة ليس كاذباً. ويخطئ من يدعى لنفسه فضلاً فيما تحقق، فليست دعوة أمريكا للشرق الأوسط الكبير هى الدافع أو الضاغط، وليست مذابح العراق، وليست الحرب ضد الإرهاب، أنها حتمية التاريخ فى تطور المجتمع، هى المرحلة التى لم يعد هناك مفر منها كى تصح الخطوات ويبتعد خطر الانفجار والفوضى. ولست مع من يقلل من أهمية ما يحدث، أو من يعتبره مجرد هبة انفعالية بعدها ستعود السيدة "ريمة" لعادتها القديمة!!، فذلك تبسيط مخل للأمور، ونوع من اليأس قد يفضله الانتحار، بل هو تقصير من النخبة فى فهم ما حدث والتمهيد لما سوف يأتى، بل قد أبادر بالقول بأنهم بقايا الأتربة والأحجار التى يجب إزالتها حتى ينفتح الباب الموارب مساحة أكبر، ذلك أن استمرارهم فى العويل والبكاء وإهالة التراب على كل شىء بما فى ذلك ذواتهم، ينتقل بالعدوى إلى بعض قطاعات المجتمع، خاصة إذا كان بعض هذه النخبة يحتل المكان الذى يتيح له التأثير فى آخرين. قد تبدو خطوة صغيرة لمن يقيس مسافات تحرك المجتمعات بقوانين الطبيعة، ولكنها تختلف فى قوانين الحركة الإنسانية فى شكلها الاجتماعى، وعلى من يقيس أن يدرس بعناية حالة المجتمع خلال القرن الماضى كله كى يفهم مقدار هذا التطور وأثره بالنسبة للمستقبل، وعلى وجه الخصوص دراسة الثقافة السياسية ومفهوم النظام السياسى لدى الغالبية الكاسحة من الشعب المصرى. لقد حدث شرخ فى جدار السد الذى كان يحتجز خلفه المشاركة الشعبية الحقيقية والفعالة، فقد كان كل ما يدور خلف أسوار السلطة طوطماً سرياً لا يجرؤ أحد من عامة الناس على مجرد التفكير فيه وليس المشاركة فى صناعته، كان الجدل السياسى يدور عالياً فوق السحاب بين أبراج عاجية ترى أنها تمتلك الحكمة والحقيقة، وتقرر بدلاً عن الناس مصائرهم، كان الأمر يبدو كهالة من القداسة تكتنف السلطة، بحيث لا يكون أمام جموع الشعب سوى السجود والتعبد فى محرابها، أو الخروج عليها ومعاناة تهمة الكفر والخيانة. لقد حدث الشرخ، رآه الناس جميعاً، وستندفع حتماً إرادة الشعب هادرة، ويبقى أن تكون هناك إرادة ووعى حقيقى لتنظيم حالة السيل والفيضان.. وهنا قد تجدر الإشارة إلى الفارق الهام ما بين الفوضى بكل معانيها، وبين العمل السياسى المنظم. إن التجربة الجديدة فى معمل المجتمعات البشرية لا يقبل عليها الناس عادة إلا بعد اختبار وممارسة، فالعادات السائدة تظل مستمرة لفترة من الزمن، بل هى تقاوم التجديد والتغيير، لأن الثابت المستقر هو صمام الأمان المضمون، والإنسان فى العادة عدو لما يجهله. ومن الحق أيضاً أن نضيف، حتى لا نتجنى على ذكاء الشعب المصرى، أن المسألة كلها لم تستغرق سوى بضعة أسابيع، تبدو كحلم جميل، والناس قد تستبشر بهذا النوع من الأحلام، لكنها لا تستيقظ كى تدرك أنه الواقع إلا بعد "قرصة" أرى أن النخبة المصرية يجب أن تقوم بها خلال الفترة القادمة، وهذه النخبة مطالبة قبل غيرها أن تتخلى عن أنانيتها وصراعات الديكة التى يشتبك أغلبهم فيها، وأن تدرك اللحظة التاريخية المفصلية التى يمر بها المجتمع المصرى، وأن يكونوا فعلاً آباء مخلصين لهذا الشعب العظيم. ومع كل الاحترام لرموز التيارات السياسية الجادة، فإن لديهم أيضاً تحديات عديدة، أظن أن أهمها تنظيم صفوفهم وتنقيتها من شوائب المراهقة السياسية، كذلك يجب أن يقدموا للناس بدائل واقعية وعلمية وليس مجرد شعارات زاعقة لم يعد العقل الجمعى يقبلها أو يصدقها، ولا يقل أهمية عن ذلك ضرورة أن تتحلى ممارساتهم داخل الأحزاب المختلفة بالتقاليد الديمقراطية، باعتبار تلك هى المدرسة الأولى لتربية قيادات سياسية واعية. وإذا كان البعض يطالب بالمزيد، فعليه أولاً أن يستفيد بالموجود ويعززه توطئة للبناء عليه، وإلا يصبح كجائع يرفض قطعة خبز طمعاً فى مائدة حافلة لم يأت أوانها بعد، ومن الحكمة أن نقرأ بعناية نتائج الخطوة السابقة حتى نتمكن من تحديد اتجاه الخطوة التالية، فليس أسهل من تكرار الحجج وعكسها التى توجه سهامها مثلاً إلى بطء الوزارة الحالية، ومن السهل دبج المقالات التى ترصد عشرات السلبيات والأخطاء، إلا أن الأهم فى هذه المرحلة هو دعم ما تحقق على الأرض بالفعل، وترسيخه من خلال الممارسة الفعلية. إن ذلك لا يعنى أبداً أنه ينبغى أن يكون هناك سقف للأمانى والطموحات، فهذه لا سقف لها ولا ينبغى أن يكون، ولكن يجب التفريق بدقة ما بين الممكن والمتاح وبين الصعب البعيد، لأن من يمشى وقد تعلقت عيناه بالسماء سوف يتعثر فى خطواته على الأرض، وقد يسقط فلا يقوم.. فالواقعية السياسية الحقيقية، كما أشرت لها فى العديد من مقالاتى هى الدراسة الدقيقة لمعطيات الواقع بهدف تغييره إلى الأفضل، وذلك يختلف عن "وقوعية" البعض الذين يرون أن "الواقعية" هى الانبطاح لهذه المعطيات والتسليم بها ولها، إذن فما أعنيه هو منطقة وسطى ما بين "رومانسية" الآمال، وبين "وقوعية" اليأس، وهى مجال الحركة والإبداع الإنسانى من أجل غد أفضل. أخشى أن بعض الرؤوس قد شابت وشابت فيها أيضاً الأفكار حتى تصلبت، وذلك أمر مفهوم بل ومقبول بحكم طبيعة الأشياء، إلا أنه من غير المفهوم أو المقبول أن تفرض هذه الرؤوس، وتلك الأفكار وصايتها على مستقبل لن تراه، ولا تستطيع بحكم الطبيعة أن تتنبأ به، أن المستقبل ملك لمواليد نهايات القرن الماضى وبدايات هذا القرن، أما نحن – بقايا القرن الماضى – فقصارى ما يمكن أن نؤديه هو تمهيد الأرض للجيل القادم بقوة، وصياغة الإطار الذى يمكن لخبرتنا أن ترص بعض جدرانه، أما أن نتوهم أننا بحكم سلطتنا الأبوية لدينا الوصاية كى نقرر لتلك الزهور المتفتحة مصيرها، فذلك خطأ يصل إلى حد الخطيئة، وظلم تأباه النفس الكريمة، ولعلى أتساءل فى حيرة حين أطالع بعض صراعات الديكة بين من بلغوا من العمر عتياً: ما الذى تتصارعون حوله؟ كم منكم سوف يكون فوق هذه الأرض الطيبة فى العام 2020 مثلاً؟، يجب أن نسلم بأننا على أهبة تسليم عصا التتابع لأجيال قادمة، فلن يأخذها أحد معه إلى القبر، بل يجب أن تدفعنا التطورات الأخيرة كى نفسح المجال لتلك الأجيال فى كل موقع من مواقع النشاط الإنسانى كى تخوض تجربتها، وتؤكد وجودها وتكتسب الثقة من خلال تراكم الخبرات. إن الرجل منا يكد ويكدح طوال حياته من أجل توفير الحياة الكريمة لأبنائه، ولكنه إذا أصر على استمرار فرض سلطته الأبوية على هؤلاء الأبناء، فإنه يضر بهم ضرراً فادحاً لا يعادله ضرر تركهم فقراء، فالفقير الواعى القوى الواثق من نفسه يمكنه خلق الثروة المادية والمعنوية، أما الثرى المذبذب الذى اعتاد على أن يصنع له الآخرون قراره فهو ضائع مضيع، وغالباً ما يفقد الثروتين الموروثتين، وقد قيل قديماً: "لا تعطنى سمكة، علمنى كيف اصطادها". ورغم بعض النماذج المشوهة من الشباب، فمن الممكن للراصد الجيد الأمين أن يلحظ أن النماذج المتفوقة أضعاف النماذج الأولى، تسلحت بالعلم وبالإرادة والثقة بالنفس، ولديها الجرأة على المبادرة والفعل، وهذه النماذج المتفوقة هى رصيدنا للمستقبل، هى أبجديات الحلم الذى عاش عليه جيلنا، هى مصر التى نريدها، وعليهم أن يستمعوا إلى نصائحنا أحياناً، ولكن – الأهم – هو ألا يتوقفوا عن الانفتاح على منجزات العلم فى العالم كله، وأن يهملوا إدعاءاتنا أحياناً بامتلاك الحكمة، والحقيقة لأن ذلك غير حقيقى وغير صحيح، فظروف نشأتنا وتطورنا تختلف تماماً عن ظروفهم، وأفكارنا مصبوبة فى قوالب تصلبت بمرور الزمن بما ناسب ظروفنا سلباً وإيجاباً، وهى ليست ميراثاً يورث أو دستوراً يقدس، ولن يكون صحياً أو مفيداً أن يأخذوا من جيلنا أى شىء باعتباره مقدساً أو بديهياً، بل يجب أن يختبروا كل ما نقول ونفعل على ضوء ظروفهم وظروف العالم الذى سيعيشون فيه دون مشاركتنا. وبعد.. فإن السطور السابقة هى مجرد قراءة سريعة انطباعية تحمل الحرص على الجنين الذى يتحرك فى أحشاء الأمة، وتحمل هموم الفكر وبعض دروس الحياة، ربما أردت منها أن تسلط بعض الضوء فى عيون خفافيش هذا الزمن التى كلما وجدت بقعة ظلام حلقت فيها كى تستمع بمص الدماء، وربما أردت أن أنظر للنصف الملىء من الكوب، بعد أن مل الناس الحديث عن النصف الفارغ، ربما لإضافة قطرة أو بضع قطرات إلى النصف الأول، فى دعوة مخلصة للأبناء كى يستكملوه بالعرق كى يكونوا جديرين بشرف الانتماء إلى هذه الأرض الطيبة، وأؤكد بلا أى مبالغة أو ممالئة لا يجدر بشيخ أن يعانيها، أؤكد أن الحمل هذه المرة غير كاذب، وأن هناك حقائق فرضت نفسها على الأرض، وأن اتجاه الخطوة التالية وصحته رهينة بما سوف نفعله بأنفسنا خلال الفترة القادمة. وأجدنى فى الختام أستعيد ذلك المشهد المتفوق لجيلى على شاطئ قناة السويس خلال سنوات الانتظار القاسية كى نحرر أرضنا، ورغم اليأس ومزامير المحبطين، رغم الخفافيش التى سدت منافذ الضوء فى كل أفق.. رغم كل ذلك قفز ذلك الجيل قفزته الهائلة كى يعبر آلاف الحواجز ويحقق النصر.. أن شباب الجيل الحالى لا يقل عن شباب مصر فى أوائل السبعينيات من القرن الماضى، بل يتفوق عليه فى العديد من الزوايا، ولديه الفرصة التى يجب أن يغتنمها للمشاركة فى صياغة مستقبله، فهو وحده الذى يملك هذا المستقبل، ولديه الحق – كل الحق – فى صنع قراره. عضو اتحاد الكتاب المصرى