أكتب منذ ثلاث سنوات عن الفكر السلفى، تحديداً منذ مقالى الأول باليوم السابع فى أغسطس عام 2009م بعنوان مقصلة الفكر التكفيرى، وكنت قد حذرت فيه من مغبة حفنة الآراء التى يظنها البعض أنها من نتاج السلف، الذى بالضرورة فى اعتقاد أصحابه أعظم وأعمق وأجل من فكرنا نحن الخلف، ولا تزال تحتفظ ذاكرتى بحوادث ومواقف متعددة مع إخوانى السلفيين الجدد بعد نشر هذا المقال. فمنذ تسعة وعشرين عاماً وأنا أشترى الجرائد والصحف والمجلات والكتب من رجل واحد لا أغيره، ولا أفضل تغييره، لأنه رجل حكيم وخبير ببضاعته وصنعته، ومنذ شهور بعيدة ذهبت كعادتى إليه كل صباح لأطالع الجديد فى عالم المطبعة الورقية، ووجدت عنده كتاباً عن النهضوى الماتع الإمام محمد عبده، فالتقطه على الفور وذهبت لدفع ثمنه للشاب الذى يساعد صاحب المكتبة ففاجأنى بقوله حينما قال: أنت أخذت كتاب الرجل الزنديق هذا !.وأقسم بالله الواحد القهار أنه وغيره كثيرون لا يفطنون الفوارق والقواسم الفقهية بين الفسق والزندقة والكفر والضلال. وأنا على علم بهذا الشاب من حيث مستواه الثقافى والتعليمى، فهو لا فطن من أمر الثقافة سوى صور وأخبار النادى الأهلى الذى يشجعه كبقية المصريين بحكم التوريث الرياضى لا القناعة والاعتقاد، ونظرت إلى عينى هذا الشاب طويلاً الذى كاد يفترسنى بنظراته لأننى أقرأ لهذا الرجل الشيوعى الذى سيضللنى بالتأكيد كما يعتقد هو. إن الأمر لا يقف عند إلصاق الألقاب والكنايات والتهم بالأشخاص حتى لو كان انتماؤهم هكذا، إنما يتعدى لحقيقة مؤداها كيف وصل بنا الأمر إلى التعميم المطلق، وحينما حاولت البحث فى دعوى التعميم هذه التى أصابت عقولنا ، اصطدمت بأفكار ورؤى ومذاهب وطرائق واتجاهات كلها تصب فى الخطاب السلفى، ولا أنكر أننى الشهر الماضى كنت حريصاً على الجلوس والتحاور مع بعض أصحاب وأنصار السلفيين حتى أفهم وأعى هذا الخطاب بجانب قراءته. وإذا أردنا أن نحلل الخطاب السلفى لما كانت هذه السطور مكانها ، ولا الوقت ولا المساحة، لكننى سألقى الضوء على نقاط محددة من شأنها تسهم فى إشعال الفتنة الطائفية تلك التى حدثت مؤخراً فى صعيد مصر تحديداً ما حدث مؤخرا بمحافظة قنا، التى كانت يوماً ما مهد التنوير والتنويريين، بل والنهضة كلها. إن الخطاب السلفى (وأقصد بالسلف هؤلاء المفكرين ورجال الدين المعاصرين وليس المعتقد الدينى والتراث النبوى للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام) مازال يرى نفسه فى معركة ضد الآخر والآخر بالنسبة له هو المسيحى فقط ، فالنصوص التى تعكس فكر هؤلاء تكشف عن مواجهة محددة للغرب الممثل فى صورة مسيحى الداخل، وهى مواجهة تنظر إليه باعتباره معتد غاصب متنمر للإسلام وللمسلمين فى كل مكان، ومن ثم يلزم محاربته والتصدى له، كما أن المثقف السلفى الذى بنى أفكاره بدءاً من فتاوى ابن تيمية انتهاءً بفقه النفط الخليجى ينظر إلى الغرب أو كل ما هو ليس بإصدار عربى باعتباره استعماراً. وكلما فكرت فى هذا الاستقراء تعجبت، ما بال هؤلاء لا ينظرون إلى واقعنا ونحن مثلاً نحمل أعلام مصر فقط فى مباريات كرة القدم يحملها شباب وجميلات مصر ، أو عندما نودع الحجاج على ميناء سفاجا، ثم نضعها فى أدراجنا ثانية، لأنه ليس هناك استعمار أو مؤامرة الآن من أى نوع. لكن مفهوم الجهاد هو مصطلح مهيمن فى الخطاب السلفى ولولا أن المساحة تضيق لسردت أسماء الكتب المعاصرة التى تتناول قضية الجهاد ضد الغرب وكأنها معركة الإسلام الحاسمة والفاصلة فى هذا القرن، الذى ينبغى فيه أن نعمل بجدية لملاحقة من سبقونا فى العلم والتكنولوجيا وربما الفكر أيضاً. والناظر بروية للخطاب السلفى (الذى يرى الإصلاح هو مسألة الرجوع إلى الأصل أى ما كان سبباً فى الصعود) يستطيع بسهولة أن يحدد عناصره وملامحه ، فهو لا يخرج عن قضايا محددة، فهو تارة ينتظر جديد المؤسسة الدينية الرسمية من أخبار وفتاوى ومحاضر اجتماعات وتصريحات، حتى ينصب نفسه مدافعا عن الإسلام الذى هو فى الأساس فى حماية مطلقة من الله، فما انطلقت بيانات تتعلق بالنقاب وجواز التبرع للكنائس وأحكام التعامل مع البنوك الأجنبية وشركات التأمين، وأخيراً انتشار الزوجة الصينية بالأسواق. حتى نجد أقطاب الخطاب السلفى يفتشون فى أوراقهم ودفاترهم فيستندون إلى فكر رجال نحسبهم على خير أولاً ، لكنهم ليسوا بمحمد (عليه الصلاة والسلام) ولا هم بخلافة الراشدين بمقربة. ونجدهم تارة أخرى يدغدغون مشاعرنا بنصوص الرقائق التى ربما تنتهى بسامعيها إلى التسليم بقيم التواكل والصبر واللامبالاة، فى الوقت الذى نحتاج إلى تدعيم ونشر قيم العمل والإنتاج، وقبول الآخر طوعاً أو قسراً أو محبة أو كراهية، المهم أن نقبله. وفى الوقت الذى يصر أنصار هذا الخطاب أنهم يكسبون أرضاً جديدة فى ميدان الفكر والحوار، أؤكد أنهم يخسرون أراض أخرى كثيرة، فهل بالجانب الشكلى الخارجى سنستعيد الحضارة والهوية، ولماذا يصر الخطاب السلفى أننا فقدنا حضارتنا وهويتنا، وإذا كان أنصار هذا الخطاب يؤكدون فى كل لحظة على أن الماضى هو المرجعية التى ينبغى أن تحكم سياسات البشر، وفى هذا تعصب دينى قد يفسد الدين الحقيقى. وأذكر بما فعله رسولنا الكريم (عليه الصلاة والسلام) يوم صلح الحديبية حينما تنازل عن كتابة بسم الله الرحمن الرحيم فى أعلى المعاهدة، هل فى ذلك فقدان للحضارة والهوية ؟، وهل حينما محى الإمام على بن أبى طالب كتابة البسملة فقد هويته وحضارته؟ أم أن لأنصار الخطاب السلفى ماضياً آخر غير الذى نعيه ونفهمه؟. ولأننى انتقدت ظاهرة التعميم فيما سبق، فأنا لا أزعم أن الخطاب السلفى المعاصر يخلو تماماً من فكرة التنوير والاستنارة التى هى جوهر التسامح وقبول الآخر، ولكنه يقترب من فكرة التنوير بقدر من الحذر والحيطة الذى يشوبه الغموض فى التناول والمعالجة، وإن كان البعض سلفيين بفضل عوامل متنوعة، فأنا سلفى أيضاً، لكن بحكم الاختيار والاصطفاء، أليس الإمام الشيخ محمد عبد رجل التنوير الدينى بلا منازع رجلاً سلفياً ينتمى للماضى، ولكن إذا حدثت أحد السلفيين عن الإمام محمد عبده، فهو (فى نظرهم) إما فاسق ، أو عميل، أو متاجر بالدين، وهناك من حضرت له خطبة بالمسجد يكفره. والشيخ الإمام يمثل نموذجاً نهضوياً لإمام الدين، ولفظة النهضوى تثير غرائز إخواننا السلفيين نحو الهجوم على الشخص والكلمة، فهى فى نظرهم تعنى النزوع وراء سطوة الحداثة ورفض التراث بجملته، وهذا مخالف تماماً لطبيعة الكلمة والدلالة، إلا أن النهضة والنهضوى والاستنهاض وكل الكلمات المنحوتة من لفظة نهض لا تعنى تقويض البناء التراثى السلفى مطلقاً، بل هى إشارة عميقة إلى هضم التراث وتناوله بالتحليل وجعله منطلقاً وقوياً للبناء والاستعلاء المستقبلى وهو ما يجسده الإمام محمد عبده كليةً. وأقول لهم، لا بد من إعادة النظر إلى فكرة التنوير فى الخطاب السلفى ، فمن العبث النظر إلى الدين على أنه تهديد للحريات، وبالتالى تهديد للتنوير، أى العقل والعلم معاً، فأكاد أجزم أن معظم النصوص التى أطالعها حديثاً تتضمن خرافات، والخرافة بعينها تجد انسجاماً فى الأفكار الدينية ، وليس المعتقدات الدينية، لاسيما الموضوعات التى تتعلق بالأخلاق. وإنه لمن المستحيل أن أوحد مشاعر واتجاهات الخطاب السلفى تجاهى أو تجاه الآخر المختلف معه فى الهوية أو العقيدة، ومن الصعب أن ألزمه بتغيير مساراته التى انتهجها منذ سنوات ليست بالقليلة، لكن لزاماً على كل مستنير أن ينصح القائمين على هذا الخطاب، بتعديل أسلوبه الهجومى بغير احتراز، لأن القاعدة العامة من جمهور هؤلاء هم البسطاء الذين لا يكلفون أنفسهم جهد التفسير والتأويل والتحليل، فتراهم دون قصد يرشقون هذا، ويضربون ذاك ، ويهاجمون هؤلاء المختلفين معهم فكرياً بضراوة، والنتيجة منطقية وفق هذا السياق؛ فتنة وتدمير وقتل وتخريب وعواقب لا يستطيع متنبئ بأحداثها. إن جوهر الخطاب السلفى لا يقبل مجرد فكرة الاستماع إلى إمكانية الجمع بين الماضى المرجعى والواقع الفعلى المعاش الذى يتسم بالمعرفة والمتغيرات الوافدة الثقافية، وهو خطاب أحادى، فعجباً ونحن فى مصر ندعى أن الإسلام هو دين الأغلبية (وهو فى الحق ليس ادعاء بحكم البيانات والإحصائيات) ومع ذلك يصر الخطاب السلفى فى نصوصه المعاصرة وبرامجه الفضائية الفراغية أنه يتحدث لقلة فقط، وأنا لا أزعم بل أكاد أجزم بأن جميع البرامج الفضائية الدينية لا تحاول الاقتراب من فكرة الحوار مع الآخر، بل أعجب من ذلك أن بعضها راح يشكك فى إخلاص الأقباط للقضية الوطنية المصرية، وأنهم دائماً عملاء للغرب، أو للاستعمار كما يزعمون. وكان يجب على هؤلاء أن يجهدوا أنفسهم قليلاً ويرجعون إلى كتب التاريخ غير المدرسية ويراجعوا دور حزب الوفد فى السياسة المصرية ، وحزب الوفد قديماً كان بمثابة الحزب الوطنى الديموقراطى حالياً، ولعب دوراً مهماً فى تنمية الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب الواحد، لذا فإن ما حدث مؤخراً بصعيد مصر من أحداث متفرقة كلها تصب فى بحر الفتنة الطائفية، كان يجب على الخطاب السلفى أن يترك مؤقتاً قضية النقاب الشرعي، وقضية إثبات عقد الزواج العرفى، وقضية الإصبع هل هو السبابة أم السباحة، ليجد لنا مخرجاً من حالة ضياع الأخلاق، وانهيار القيم، ومواجهة الفساد، ووضع خطة مستدامة لنهضة هذه الأمة دون تفرقة بين مواطنيها، لا ليكونوا ناراً فى الهشيم، ومسماراً جديداً فى وحدة هذه الأمة. ومن هنا أشير إلى أن المسلمين طوال تاريخهم الطويل لم يظلموا ذمياً أو كتابياً، بل إن الأمر كان يوجه لجيوش المسلمين وعدم هدمها أو الإساءة إليها كما أن أصحاب الملل الأخرى ارتقوا مناصب مهمة فى كثير من الدول والإمارات الإسلامية دون تعصب ضدهم أو إساءة إليهم، وأن المؤسسات التعليمية والمكتبات الخاصة لهذه الملل استمرت تؤدى عملها فى ظل الحضارة الإسلامية دون مصادرة لها أو تعطيل لعملها، وقد حدد لنا ديننا الإسلامى الحنيف ملامح علاقتنا بالذميين منها سماحة الإسلام تجاه أهل الذمة فى اختيار عقيدتهم، حيث يرفض الإسلام أن يكره الناس على الدخول فى عقيدة لا يرتضونها، فالإنسان بعقله الذى وهبه الله إياه، عليه أن ينظر أى طريق يسلكه من طريقى الهدى والضلال، وعلى المسلمين أن يبلغوا رسالة الإسلام إلى من عداهم، فإما أن يهتدوا ويختاروا طريق الخير وهو طريق الإسلام، وإما أن يختاروا الطريق الآخر. بقى أن نوجه إخواننا السلفيين الذين قد يصادفهم هذا المقال وهذه السطور غير الشافية بأن الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وسلم) قد أبرز ركيزة الدين الإسلامى القويم فى عبارة بليغة مكاناً ومكانة حينما قال: "الدين المعاملة".