تابعت طوال الأيام الماضية تداعيات الشغب، الذى أسدل به جمهور نادى "الترجى" التونسى الستار على مباراة فريقه أمام النادى "الأهلى" المصرى.. فى دورى رابطة الأبطال الأفريقية.. أتتبع المواقع الرياضية والاجتماعية.. والبرامج الحوارية على شاشات الفضائيات المختلفة.. والتقارير ومقالات الرأى التى أفردت لها الصحف مساحات ليست بالقليلة.. أرصد ما تلقيه على مشاهديها وقرائها.. والذى بدا كما لو كان هناك اتفاقا – غير مكتوب – بينها على السير فى اتجاه التغطية المتحضرة الهادئة الواعية.. والانتباه لعدم الاستدراج لفخ "رفع العلم" عند تناول أحداث بعينها تمس قطاع عريض من الجماهير. تعبير "الكتابة برفع العلم", سمعته منذ عامين من الصحفى الأمريكى المعروف "مارك فلدشتاين".. واصفا تغطية الصحف الأمريكية للعدوان على العراق عام 2003.. قائلا: "غطت الصحافة الأمريكية الحرب رافعة العلم الأمريكى.. وهذا كان الخطأ".. وهو فخ ظلت الصحافة الأمريكية تلوم نفسها على السقوط فيه طوال السنوات التى تلت غزو العراق.. وهو فخ نصبته لها الإدارة الأمريكية بمهارة.. مصطحبة الصحفيين الأمريكيين – لأول مرة – فى طياراتها العسكرية المغادرة إلى العراق.. ناسجة بذكاء خيوطا حريرية لعلاقات إنسانية عميقة.. بين هؤلاء الصحفيين وبين الجنود الذاهبين فى مهمة اعتقدوا أنها مقدسة.. عايشوهم ليل نهار.. سمعوا قصصهم الإنسانية.. وتفاعلوا مع حماسهم غير المسبوق للدفاع عن وطنهم الحلم.. دخلوا معهم فى شرنقة التعبئة العسكرية القصوى.. وتلك كانت السقطة.. نسوا فى غمار انفعالهم بأجواء يحيونها لأول مرة, مهمتهم التى قدموا من أجلها.. الإعلام.. إعلام العالم بما يجرى.. دون توجه أو رأى مسبق أو الميل لاتجاه بعينه دون الآخر.. فسقطت منهم معان دفعوا ثمنا باهظا طوال سنوات للحفاظ عليها, والتفاخر بها.. منها قيمة الحرية. فى الأيام الماضية.. تابعت وسائل الإعلام المصرية والتونسية.. تصريحات المسئولين على الجانبين, مصر وتونس.. لم يفاجئنى كل هذا التحضر الذى خرجت به تصريحات رئيس اتحاد كرة القدم التونسى.. ولا مدرب فريق الترجى.. ولا السفير التونسى فى القاهرة.. ولا النائب العام التونسى.. فالتحضر هو الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه.. وهو إعلاء قيم العلاقات بين الدول والشعوب.. وعدم المقامرة بها فى مقابل حماس لحظى غير مبرر.. التحضر هو أن تضع العالم أمام عينيك عندما يخرج تصريحا على لسانك, كمسئول أو صحفى أو مثقف تحسب على النخبة.. التحضر هو أن تضع كل مقال فى مقامه, لا أكثر ولا أقل.. كانت تونس – كما عرفنا عنها – دولة متحضرة فى معالجة الأمر.. بمسئوليها ومثقفيها وشعبها.. على نهج التحضر الإنسانى. كانت مصر كبيرة بقرار النائب العام الإفراج عن ال 14 مشجعاً.. وكانت متحضرة بإعلام وعى جيدا درس الأزمة.. التى استدرجته إليها دولة الجزائر.. بمسئوليها ومثقفيها وإعلامها الذى مازال يحبو!!.. فضبط نفسه.. وتنفس بعمق قبل أن تجرى سطوره على الورق.. أو ينقله الأثير عبر فضائياته المختلفة.. فنحى "الكتابة برفع العلم" جانبا.. وعاد أدراجه لمهمته الأولى.. معلما المتلقى دونما توجه.. وكانت مصر متحضرة بشعب متسامح عبر الموقف كله.. مفصحاً عن مشاعر عميقه تجاه الشعب التونسى.. وكانت متحضرة وواعية برجال أمنها.. الذين ضبطوا النفس فوق ما تتحمله النفس.. فاحتملوا خروج شباب صغار, مثلهم مثل شباب المشجعين فى مصر وكثير من دول العالم, عن أخلاق الرياضة.. تجاوزا شعور الالم الوقتى.. إلى دورهم الرئيسى, إقرار الأمن. وبعد أيام من المتابعة والرصد.. أجد واجبا أن أرفع القبعة للدولتين.. فالدول التى تكبر بمواقفها تستحق كل التقدير والاحترام.. فتلك التى تدرك قيمة الدولة ومسئولياتها, تستحق أن تحتل مكانا هى أهل له وسط دول العالم.. أما تلك التى لا فرق عندها بين أداء دولة.. وسلوك قراصنة البحار فى العهود القديمة.. فجدير بها أن تظل مغلقة حدودها على نفسها.. فلا هى قادرة على التواصل مع دولة مجاورة.. ولا مع دول أخرى حتى ولو كانت تنطق بلغاتهم!