هل نحتاج إلى زراعة القمح فى السودان، وهل تكون جدوى الزراعة فى السودان لتغطية احتياجات مصر من القمح، أعظم من جدوى استصلاح أراض فى مصر، تكون فائدتها أعم وأشمل على مر العصور؟ هذه الأسئلة تفرض نفسها فى ظل الاهتمام الحالى من المسئولين المصريين ونظرائهم فى السودان، بموضوع زراعة القمح فى السودان، بمياه النيل والآبار المتاحة هناك، وبتقنيات وخبرات الرى الحديثة التى تمتلكها مصر. وبعد تصريحات وزير الزراعة السودانى الزبير بشير طه فى مؤتمر الأمن الغذائى المنعقد فى روما أخيرا، بوجود اتفاقات ثنائية بين مصر والسودان، للتوسع فى مشروعات لزراعة القمح فى بلاده لتلبية الاحتياجات المتزايدة لشعبى البلدين، كان مهماً أن نطرح القضية فى حوار على خبير مصرى متخصص فى مجال الزراعة. اليوم السابع حاورت الدكتور تاج الدين شهاب وكيل مركز البحوث الزراعية المصرى، حول جدوى الاستثمار الزراعى فى السودان ووضع القمح المصرى. تتردد فى الفترة الأخيرة أخبار عن مشروعات لزراعة القمح فى السودان لصالح مصر، هل هذا الكلام صحيح أم مجرد تصريحات؟ هناك نية بالفعل للتوسع فى مشروعات زراعة القمح فى السودان، والطرف السودانى يرحب بالأمر. وما جدوى التوسع فى هذه المشروعات؟ زراعة القمح فى السودان ضرورة، لكن الأهم من ذلك توفير الأمن فيها، فهى امتداد لمصر فى الجنوب أى أنها جزء من مصر وهى الأقرب والوحيدة التى لديها أكثر من 200 مليون فدان صالح للزراعة، بالإضافة إلى توافر المياه، ولكن ينقصها ضعف البنية الأساسية، وأيضا عدم الاستقرار الأمنى الناتج عن الحروب والخلافات الداخلية. وماذا عن المشروعات القائمة بالفعل، هل حققت نجاحاً؟ مستوى الاستثمارات فى هذا المجال، لم تكن على قدر الطموحات المرجوة لحل مشكلات القمح فى مصر, فالسودان بإمكانها حل أزمة الغذاء فى جميع الدول العربية، لأن مساحتها كبيرة والمياه متوافرة وينقصها فقط تمهيد الطرق وتوفير الآلات اللازمة لذلك. ومن المسئول عن هذه الاستثمارات؟ مستثمرون مصريون بالتعاون مع مستثمرين عرب. ومن المسئول عن فشل الاستثمارات القائمة؟ لا أقول فشلا، ولكن كما ذكرت ليست على المستوى المطلوب. والتجربة بشكل عام جديدة عملياً، لكنها على المستوى البحثى بدأت منذ الثمانينيات، ونأمل أن تشهد المرحلة المقبلة الخروج من عباءة البحث إلى التطبيق العملى على أرض الواقع وبنجاح. البعض يرى أن الأولى من زراعة القمح فى السودان، استصلاح الأراضى المصرية؟ هذا صحيح، لكن الزراعة فى السودان ستقلل اعتمادنا على الاستيراد من الخارج حيث نستورد حوالى 40% من استهلاكنا من القمح، وتأتى الولاياتالمتحدة على رأس الدول التى نستورد منها بنسبه 38% وفرنسا وأستراليا وكندا ومن الأرجنتين فى بعض الأحيان. فضلاً عن أن التجربة ستمكن مصر من الحصول على قمح بنفس جودة المستورد، وبأيدى عاملة مصرية وسودانية. هل أزمة القمح فى مصر مرتبطة بارتفاع سعره عالمياً؟ للأسف الشديد انتهى عصر الغذاء الرخيص، والأسعار العالمية لن تنخفض مرة أخرى، لأن الطلب فى الاستهلاك على المواد الغذائية كالحبوب زاد، فضلاً عن الإقبال على استخدامه كوقود حيوى وكبديل للأعلاف، وهذا ما تعانى منه مصر حالياً. وهل هناك – من وجهة نظرك - استغلال جيد للأراضى الصالحة لزراعة القمح فى مصر؟ ليس لدينا أى مشكلة فى زراعة القمح، لكن العائق الوحيد يتمثل فى عدم وفرة المياه الصالحة للرى، فهو يزرع فى جميع أنواع الأراضى سواء رملية أوطينية. وهنا لابد من أن نحدد كيفية زراعته بالتكلفة المناسبة، بحيث لا تتعدى تكلفة زراعته الفائدة الاقتصادية منه، أو أن تكون أعلى من سعر استيراده من الخارج،كما حدث فى السعودية. إذاً المشكلة فى مياه الرى؟ نعم، لأن كمية مصر من مياه النيل محدودة (55.5 مليار متر مكعب) منذ اتفاقية توزيع المياه عام ،1959 وهذه الكمية مازالت ثابتة حتى الآن، على الرغم من أن عدد السكان وصل إلى 76 مليون نسمة, وبعدما كان نصيب الفرد من المياه حوالى 1000 متر مكعب فى السنة, انخفضت النسبة إلى حوالى 700 متر مكعب، و هذا مؤشر له دلالة خطيرة، حيث إننا بذلك دخلنا مرحلة الفقر المائى. وما سمات هذه المرحلة؟ لن نجد مياها للزراعة لأنه فى هذه الحالة ستكون الأولوية لمياه الشرب، وقد نعود للتصحر مرة أخرى وبالتالى علينا تدبير أمورنا من هذه الكمية. وكيف يتحقق ذلك؟ من خلال تغيير نظم الرى، وهناك حلول كثيرة, منها ما تم تنفيذه، وهناك خطط مازالت فى طور البحث. فعلى سبيل المثال، نحن نفكر فى تطوير شبكة الرى فى الدلتا للتحول إلى نظم رى حديثة، تقلل إهدار المياه كنظام الرى بالتنقيط. لكن الرى بالتنقيط مكلف وخاصة بالنسبة لصغار الفلاحين؟ هذا صحيح، ويزيد من صعوبة الأمر أن الملكية فى مصر مفتتة، وبالتالى نحتاج إلى عملية تجميع ونظام رى مناسب وهذه النقطة أيضا تتخللها بعض العقبات، منها ما يتعلق بتحميل التكلفة على الدولة أو الفلاح. السؤال موجه لك. من سيتحمل التكلفة؟ المفترض أن تتحملها الدولة، لكننا نعانى من قصور فى الإمكانيات. وهناك نقطة أخرى تتعلق بالفلاح نفسه فنحن بحاجة شديدة إلى أن يغير الفلاح ثقافته الزراعية وطرق الرى التى يستخدمها، كأن يتمكن من استنباط أصناف أكثر تحملا للجفاف أى تحتاج كمية أقل من المياه. لكن استنباط أصناف جديدة ليست مسئولية الفلاح بل المراكز البحثية؟ للأسف نحن لسنا بلد علم، فزراعة القمح قتلت بحثاً، وهناك قسم مخصص للقمح فى مركز البحوث الزراعية به 100 عالم فى القمح، بالإضافة لعلماء القمح فى الأقسام الأخرى، ولهم العديد من الدراسات والأبحاث. وأين تذهب هذه الأبحاث والدراسات؟ بعضها يتم تطبيقه لكن ليس بالصورة المطلوبة، والدليل على ذلك أن متوسط الإنتاج فى سنة1980 كان 9 أردب فقط للفدان, أما الآن فإن المتوسط وصل إلى 18 أردباً للفدان الواحد. ونتج عن هذه الدراسات استنباط أصناف جديدة ذات إنتاجية عالية وتتحمل الإجهادات والأمراض البيئية، واستيعاب المزارع للتعامل مع تلك الأصناف وهى بحاجة إلى تفعيل وأن تؤخذ بشكل أكثر جدية. تعنى أن الجهات المسئولة لا تأخذ هذه الدراسات على محمل الجد؟ السبب فى ذلك هو ضعف الميزانيات وبوجه خاص ميزانية البحث العلمى التى دائما ما تكون غير كافية، ونعمل على حل تلك المشكلة من خلال الضغط على الحكومة وبطرق أخرى. كيف؟ لا داعى لذكرها فهى مجرد محاولات للضغط قد تستجيب لها الحكومة بتلبية نصفها ومرة أخرى ربعها, وبالرغم من ذلك هناك بحث علمى قائم، لكن ليس بالكفاءة المرجوة. وهل هناك نتيجة إيجابية مستفادة من هذه الضغوط؟ زيادة الدعم الزراعى بنسبة 25 مليار جنيه فى ميزانية الدولة الأخيرة لمدة خمس سنوات، كما صرح وزير الصناعة بإعطانا بريقا من الأمل لحل هذه الأزمة، لأن الدعم الزراعى فى مصر يعانى من انخفاض ميزانيته بشكل ملحوظ. وهل زيادة الدعم الزراعى كفيلة بتحقيق الاكتفاء الذاتى من القمح؟ أرى أنه من السهل أن يتحقق ذلك إذا كان استهلاكنا خاليا من الاستخدام الخاطئ والفاقد. وكم تبلغ نسبة الفاقد من القمح فى مصر؟ الفاقد يبدأ من الحصاد وسوء التخزين والنقل بنسبة 10-12% ، والجزء الآخر يفقد فى الطحن والشون وسوء الاستخدام بنسبة تتراوح بين 10 و12 %, أى أن نسبة الفاقد من القمح فى مصر تصل إلى 30%. ومن المسئول عن الاستخدام الخاطئ للقمح؟ نقص أعلاف فول الصويا والذرة من أسباب الاستخدام الخاطئ للقمح, حيث يضطر المزارع لاستخدامه بديلا لمحاصيل العلف، ثم يبحث عن شراء الخبز المدعم, وهذا هو الأسوء, كغذاء للدواجن، وفى بعض الأحيان يستخدم القمح المجروش كغذاء للأسماك. وأين الرقابة؟ لا يمكن أن تتحقق الرقابة على القمح على الإطلاق,"حتى لو تم تعيين أمن مركزى لمراقبة بيعه وشرائه على كل مخبز"، فأصحاب المخازن يشترون طن الدقيق المدعم بنحو 160 جنيها، ويبيعونه بسعر يتجاوز 2500 جنيه، ويحقق أرباحا تفوق تجارة المخدرات, وبالتالى فهناك تفنن فى عملية تسريب القمح يصل إلى حد بيعه كعجين، حيث يقومون بتجفيفه وبيعه كأعلاف للحيوانات والدواجن, أو خبز مرتجع حيث يتعمد الخباز إفساد الخبز ليبيعه بثلاثة أضعاف السعر، وبالتالى هناك فاقد كبير منه. وهل هذا الفاقد هو المتسبب فى أزمة الخبز؟ السبب فى أزمة الخبز فى رأيى هو الدعم، لأنه لو تم إلغاء الدعم على الرغيف لتصل تكلفته إلى 30 قرشا لن يستخدمه المواطن بشكل خاطئ. وفى المقابل يتم توزيع قيمة الدعم، والتى تصل إلى 19 مليار جنيه على المواطنين، شرط أن لا يكون هناك رفع فى الأسعار مثلما حدث أخيراً. رغيف بسعر ثلاثين قرشاً هل ترى أنه يناسب الفقراء ومحدودى الدخل؟ "مش كل مرة نقول الغلابة، طب ما هو أحنا كمان غلابة"، ومستحقو الدعم 5% فقط، والنسبة الباقية تصل إلى التجار والمهربين, دعم سلعة معناه أن لها سعرين فى السوق وهذا قمة الفساد. وهل أنت راض عن مواصفات الرغيف فى السوق سواء المدعوم أو غير المدعوم؟ سأتحدث فقط عن الرغيف المدعوم، فمن المفترض أن يكون قطر الرغيف 26 سم أو 22سم على أقل تقدير، ووزنه من 120-130 جراما، ويحفظ فى نسبة رطوبة لا تزيد على 26 درجة مئوية. أما وضع الرغيف المصرى الحالى، لا يمكن تشبيهه إلا بجسد تعرض لآثار قنبلة نووية فتشوه تشويهاً رهيباً.