فى الرابع من شهر يونيو– حزيران عام 1982 بدأت الطائرات الحربية الإسرائيلية بإلقاء حممها على العديد من المناطق اللبنانية، ولغاية مساء الخامس منه لم يعتقد أحد أن الأمر سيتجاوز الغارات الجوية وسيتحول إلى جحيم حقيقيى يبدأ بجنوب لبنان وينتهى فى قلب العاصمة بيروت. فى السادس من يونيو– حزيران تحرك أكثر من 1100 دبابة إسرائيلية لتجتاز الحدود اللبنانية معلنة بدء عملية "سلام الجليل"، وذلك حسب زعم القيادات الإسرائيلية بهدف إبعاد الصواريخ اللبنانية الفلسطينية عن شمال دولة إسرائيل، وكذلك المجموعات المسلحة الفلسطينية واللبنانية، وال الثمانى والعشرون سنة التى مضت كتب الكثير عن بيروت وما جرى لها خلال هذا الاجتياح، ولن أعيد وأكرر الأسباب الحقيقية أو تلك المعلنة لهذه الحرب بل سأسترجع الذاكرة لصور ومشاعر لم تمحى طوال هذه الفترة. تصادف يوم السادس من حزيران مع عودتى من زيارة لسوريا، ومجرد دخولنا المنطقة الحدودية الفاصلة بين البلدين أحسسنا بتحركات غير اعتيادية وحركة كثيفة للآليات العسكرية، ومع توغلنا أكثر وأكثر داخل الأراضى اللبنانية بدأت الأخبار تصلنا بالتواتر حول التوغل الإسرائيلى داخل الأراضى اللبنانية، ومع ساعات المساء الأولى اتضحت معالم الكارثة الآتية، وبدأت القرى والمدن اللبنانية تتساقط الواحدة تلو الأخرى بطريقة غريبة وكان لا مقاومة ولا سلاح ولا مقاومين، فعمت حالة الإحباط بين الجميع، خصوصا مع توافد فلول المقاومين الفلسطينيين والعرب الهاربين من المناطق الجنوبية، وأشد المشاهد إيلاما كان بقايا السلاح الملقاة فى كل مكان، والتى تخلص منها المقاومون حتى يسهل هروبهم من الجيش الإسرائيلى. لم يبق فى بعض المدن والقرى إلا الفتيان الذين لا تتجاوز أعمارهم الثالثة أو الرابعة عشر من العمر، وكان المهمات الملقاة على كاهلهم كثيرة بسبب هروب الشباب خوفا من الاعتقالات التى كانت تجرى عشوائيا، سقطت صور وصيدا ومنطقة الشوف والطريق الساحلى المؤدى إلى بيروت ولم يكن أحدا يفكر أو يحلم حتى بأن تحاصر بيروت، ومن ثم تسقط فى أيدى الجيش الإسرائيلى بعد حصار لأكثر من ثمانين يوما تحولت بعدها إلى ركام ترافق مع المعنويات المحبطة. كانت آنذاك المقاومة عبارة عن عمليات فردية بمعظمها غير منظمة، أبطالها بعض الشباب الذين لم يرضخوا للذل الآتى، إلى أن تم توحيد جهودهم فى إطار المقاومة الوطنية اللبنانية "جمول"، والتى حققت الكثير بتحرير بيروت وصيدا وصور والنبطية قبل أن يتم السطو على إنجازاتها وجعلها كتابا منسيا، على الرغم من تقديمها لمئات بل آلاف الشهداء. من الصور التى لا تفارق مخيلة فتيان تلك الفترة، احتراق أول بارجة حربية إسرائيلية مقابل شاطئ صيدا، والشعور الرائع الذى اجتاح الشبان الذين أطلقوا الصواريخ باتجاهها، شعور ممزوج بالفرح والانتصار والرعب من تحطيم أسطورة الآلة الحربية الإسرائيلية، وتلاها عملية الويمبى التى قام بها الشهيد خالد علوان بقتله ثلاثة ضباط كبار فى شارع الحمراء فى قلب بيروت، وبعدها عملية "الجية" فى إقليمالخروب حيث قام شباب المنطقة بمحاصرة رتل من دبابات العدو الذى لم يعرف كيف يهرب من جحيم نيران المقاومين. لا شك أن الجرح الذى أصاب القلوب لدى سقوط بيروت لن يزول إطلاقا، لكن ما خفف من حدته إصرار الشبان اللبنانيين على المقاومة بغض النظر عن الانتماء القومى أو الدينى أو المذهبى، لكن للأسف تم تحوير التاريخ، وتاريخ المقاومة بشكل خاص، فتم تجيير دماء شهداء بيروت ولبنان لانتصارات أخرى وأحزاب وليدة أخرى. * كاتب لبنانى..