العاصمة اللبنانية بيروت تعيش حاليا فى قلب الحرب الاستخبارية، التى انخرطت فيها الأجهزة الأمنية للعديد من الجهات: سوريا وحزب الله والموساد، إضافة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والكثير من الأجهزة الغربية الأخرى. ومن المعروف أن أحداث الحرب الباردة دارت فصولها فى العاصمة الألمانية برلين، لكن هذه الحرب غير الشرعية تسيطر وقائعها بمنطقة الشرق الأوسط وساحتها هى مدينة بيروت اللبنانية، وبها يجول جواسيس الغرب وعملاء إيران، ورجال المخابرات السورية ومسلحو حزب الله، وأفراد الموساد ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والكثير غيرهم، يخوضون حربا مبهمة، يتم التهليل للانتصارات فى جولاتها، ولكن يتم التكتم فيما يخص إخفاقاتها وكبواتها، فلا يتحدث أى منهم عن هزائمه علنا. وخلال هذه الحرب التى يطلق عليها مجازا "حرب الظل" تكبدت أجهزة المخابرات الإسرائيلية هذا العام فى لبنان واحدة من أكبر نكساتها فى تاريخها، والأمر يتعلق بتفكيك أكبر شبكة تجسس للموساد فى بلد عربى، والأرقام لم يسبق لها مثيل، فقد تم توجيه تهمة التجسس لحساب إسرائيل لأكثر من سبعين لبنانياً فى الأشهر الأخيرة، وتم اعتقال أربعين من المشتبه بهم، ولا تزال السلطات اللبنانية تبحث عن الثلاثين الآخرين. فيما تمكن بعض المشتبه بهم من الفرار، مستقلين طائرة إلى جهة مجهولة، أو أنهم عبروا الحدود بين البلدين اللذين لا يزالان فى حالة حرب منذ عام 1949 وغيرهم قد توقف عن نشاطه. على عكس قصص أبطال روايات الجاسوسية من المشاهير، فإن أعضاء هذه الشبكات ينتمون إلى عالم أقل سحرا من حقل الاستخبارات، هو عالم الخلايا المجهولة المسئولة عن جمع معلومات مجزأة، وإعداد ملفات عن الهدف أو متابعة التحركات اليومية للعدو. من بين هؤلاء العملاء أشخاص ظلوا خاملين لأعوام عديدة متخللين بين جميع الطوائف اللبنانية "المسيحيين والسنة والشيعة بجنوب لبنان والبقاع والعاصمة بيروت". اللواء "أشرف ريفى" - المدير العام لقوى الأمن الداخلى فى لبنان - والتى قامت باعتقال عدد كبير من الجواسيس أوضح للفيجارو الفرنسية قائلا: "كان بعضهم يعمل لحساب إسرائيل لسنوات بداية من عام 1980"، وأضاف: "لقد تم تجنيدهم بدوافع مختلفة، مالية أو أيديولوجية أو نفسية، بل كانت هناك حالات ابتزاز جنسى أو غير ذلك من طرق السيطرة على العملاء من قبل أجهزة المخابرات، ولكن العامل الأساسى لهذا التجنيد هو الاحتلال الإسرائيلى الطويل لجنوب لبنان، الذى كان سببا فى تهيئة الاتصال بين الإسرائيليين واللبنانيين، والذى جعل العلاقات فيما بينهم مقبولة بشكل ما". ويعلق مصدر دبلوماسى غربى فى بيروت، قائلا للفيجارو الفرنسية: "من المحتمل أنه منذ فشل إسرائيل الجزئى الذى تكبدته خلال حرب 2006،ئ حيث كانوا يعتمدون خلالها على قدرتهم الجوية والتكنولوجية، فلقد طلب الإسرائيليون الكثير من شبكاتهم، مما جعلهم أكثر عرضة للمخاطر وذلك من أجل تجديد قوائم أهدافهم، ولكن هذه الاعتقالات هى أساسا ثمرة عمل لم يسبق له مثيل لقوات الأمن اللبنانية". وكما هو الحال فى جميع هذه الحالات، فمن الصعب حل عقدة الرواية أو المسئول عن وقوع هذه الشبكة فى يد السلطات، ولاسيما فى لبنان، حيث إن حزب الله، الذى يشكل دولة داخل الدولة، ما زال قادرا على حماية أجهزة استخباراته من الاختراق ويتعاون أحيانا مع أجهزة الدولة اللبنانية التى لا تزال مليئة بوكلاء وضباط موالين لسوريا، ولكن يقودها منذ الانسحاب طائفة السنة الموالون للحريرى، بما فى ذلك قوات الأمن الداخلى. ويستطرد الدبلوماسى بالقول: "مما لا شك فيه أن هناك عاملا محركا وهو بالتأكيد وعى حزب الله لمدى التغلغل الإسرائيلى". فحزب الله هو تنظيم كتوم ومبهم، أسس أمنه على تجنيد الكوادر الشيعية، ولقد تعرض فى شهر فبراير عام 2008،ئ إلى حادث مؤلم مع اغتيال قائد جناحه العسكرى، عماد مغنية فى دمشق، وينسب هذا الهجوم إلى الموساد، ومنذ ذلك الحين بدأ عمل الحركة ضد التجسس. فى نهاية عام 2008،ئ بدأت أعمال الاعتقالات الأولى، ففى شهر نوفمبر تم القبض على أخوين من السنة على يد حزب الله. ولقد تم توجيه تهمة التجسس لحساب إسرائيل لمدة عشرين عاما إلى يوسف وعلى جراح، المنحدرين أصلا من بلدة المرج فى البقاع. ولقد تم العثور فى حوزتهم على معدات للتصوير الفوتوغرافى والفيديو، ونظام تحديد المواقع مخبأ فى سيارتهم، وكانت السيارة مجهزة لالتقاط الصور، وكثيرا ما كانت تصطف عند نقطة حدودية على الطريق السريع بين بيروتودمشق، الذى يمر عبره مسئولو حزب الله. ولقد توجه على جراح، الذى يحمل جواز سفر إسرائيليا، إلى إسرائيل عبر قبرص أو الأردن للاطلاع والتدريب ووفقا لمصادر لبنانية قد تم إرساله للاستطلاع إلى حى دمشق حيث اغتيل مغنية. وفى شهر يناير لعام 2009،ئ أسر حزب الله اثنين آخرين من المشتبه بهم، واختطف "جوزيف صدر" وهو عامل فى مطار بيروت، وهو فى طريقه إلى العمل. وعند استجوابه اعترف بأنه كان يعمل فى المطار الذى يمر عبره مبعوثون ودبلوماسيون من كل أنحاء الشرق الأوسط. أما العميل الرابع الذى اعتقله حزب الله، فهو من مدينة النبطية الشيعية فى جنوب لبنان، ويدعى "مروان فقير"، وكان وكيل سيارات، يقوم بتجهيز المركبات للحركة الشيعية. ولقد استخدم مهاراته لتثبيت أجهزة التتبع على السيارات التى يقدمها له الحزب بهدف إصلاحها، هذه الحالات ما هى إلا تمهيد لحملة اعتقال واسعة، تتبعها أجهزة الاستخبارات اللبنانية. وفى مايو 2009 بدأت الاعتقالات، فلقد تم استجواب الجنرال "أديب علام"، وهو ضابط مسيحى متقاعد، كان يعمل سابقا فى مديرية الاستخبارات العسكرية، مع زوجته وأحد أقربائه. ووفقا لوسائل الإعلام اللبنانية نقلت الفيجارو أنه قد اعترف بأن المخابرات الإسرائيلية قد جندته فى عام 1998،ئ فلقد أقنعه الموظفون بالمخابرات الإسرائيلية بالتقاعد للبدء فى العمل فى وكالة للتوظيف المحلى الآسيوية، وبفضل هذه التغطية كان "علام" يسافر إلى اليونان وقبرص وإيطاليا، حيث التقى بضباط المخابرات الإسرائيلية. وكان قد قدم معلومات عن حزب الله والحركات الداخلية للجيش اللبنانى، كما أنه قد وصل إلى إدارة الجوازات، وهى تعد مصدرا رئيسيا للمعلومات. وفى المقابل، تم الضغط على "منصور دياب"، وهو عقيد سنى ولد فى عكار بشمال لبنان، للاعتراف بأن له صلة مع إسرائيل. فهذا الكوماندوز البحرى كان واحدا من الأبطال الذين اقتحموا مخيما للاجئين فى مخيم نهر البارد، وأصيب فى كتفه خلال الهجوم الذى وقع فى صيف عام 2007 ،ولقد جنده الموساد خلال فترة تدريبه بالولايات المتحدةالأمريكية، كما تم اعتقال ضابط آخر برتبة عقيد، يدعى "شهيد تومية"، ولد أيضا فى عكار، وكان بصحبة أحد المتقاعدين من الجمارك. ثم تم القبض على "نادر ناصر"، المشتبه بقيامه بتنظيم مراقبة حى الضاحية، معقل حزب الله فى الضاحية الجنوبيةلبيروت والتى دمرها القصف الإسرائيلى بدرجة عالية من الدقة فى عام 2006 . خلايا التجسس كانت تضم شخصين أو ثلاثة أشخاص، وكان هؤلاء الأشخاص يعملون بشكل مستقل ومنفصل، ولا يعرفون بعضهم البعض. ولقد فسر الجنرال "ريفى" قائلا: "لقد نجحنا فى اختراق تقنية سرية، الأمر الذى سمح لنا بالكشف عن هذه الخلايا، ولقد بعث بعضهم برسائل إلى الضباط الإسرائيليين الذين دربوهم ليخبروهم بأنهم شعروا أنه تم تحديدهم، ولقد تم الرد عليهم بأنه لا ينبغى عليهم أن يقلقوا، ورغم ذلك بدأت الاعتقالات بين صفوفهم، فيما توقف أولئك الذين تمكنوا من الفرار عن ممارسة نشاطاتهم". ويقول مصدر دبلوماسى فى بيروت للفيجارو الفرنسية إن "التحقيقات فى قضية اغتيال رفيق الحريرى مكنت أجهزة الاستخبارات الغربية من الاستعانة بمجموعة برامج قوية قادرة على تحليل عشرات الآلاف من المكالمات الهاتفية، والكشف عن الحالات الشاذة، مثل الهواتف النقالة التى يتم تنشيطها فى أوقات معينة، أو التى لا تتصل إلا برقم أو رقمين فقط، وهى أداة استثنائية فى التحقيق" والمسئول عن هذا البرنامج هو ضابط معروف متخصص فى أنظمة الكمبيوتر، وهو النقيب وسام عيد.ويضيف المصدر اللبنانى، الذى لم يرغب فى الكشف عن نفسه أنه "من المرجح أنه اكتشف أشياء كثيرة من خلال هذا البرنامج، خاصة اتصالات حزب الله".. فهل يعلم الكابتن عيد الكثير عن هذه البرامج؟ وهل اكتشف تورط حزب الله فى الهجوم الذى وقع ضد رفيق الحريرى؟ يبقى أن يوم 25 يناير 2008 هو تاريخ تفجير سيارة الراحل رفيق الحريرى المصفحة من خلال سيارة ملغومة أدت إلى مصرعه على الفور. ومنذ ذلك الحين، سمح للنظام اللبنانى أن يصعد من تحضيراته ويحصد مكاسب كثيرة، موجها واحدة من أقوى الضربات لإسرائيل فى الحرب الدائرة حاليا بدون أبطال.